ثقافة

أدب النهايات العبري: إسرائيل وهاجس الزوال العنيد

لا تمر ذكرى نكبة فلسطين وقيام إسرائيل كمشروع استيطاني إحلالي دون أن يثير ذلك اهتمام السياسيين والمؤرخين والمفكرين والإستراتيجيين، سواء داخل الكيان أو خارجه، وخاصة في العقدين الأخيرين. إذ تتجدد الأسئلة حول مستقبل هذا الكيان، مثل: هل سيشهد ذكرى تأسيسه المئة؟ هل يكمل عامه الثمانين قبل أن يواجه المصير نفسه الذي واجهته كيانات يهودية تاريخية سابقة؟ كيف يمكن للانشقاقات الداخلية بين المتدينين والعلمانيين أن تسرّع من نهايته؟ ولماذا يبدو أن الرب قد تخلى عن شعبه؟

وفي الواقع، يعد هذا الكيان المكان الوحيد في العالم الذي تُطرح فيه مثل هذه الأسئلة والهواجس الوجودية بهذا الشكل المتكرر. ولم تكن ذكرى النكبة وقيام الكيان هذا العام استثناءً، بل ازدادت أهمية وإلحاحاً بعد اندلاع ملحمة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تواجه إسرائيل أزمة مزمنة بسبب أن الصهيونية هي التجلي الإمبريالي لعلمانية فاشية شاملة، حولت اليهودية إلى أداة لخدمة الإمبريالية الغربية. أصبحت إسرائيل المشروع الاستيطاني الأخير في العالم، الذي يتجه تاريخيًا نحو العزلة والانحطاط الإستراتيجي، منتظرًا التفكيك مع صمود شعب فلسطين ونهوض الأمة وتراجع الهيمنة الإمبريالية الغربية وتآكل ركائزها.

من مؤشرات دخول الكيان طور “النهاية” تصاعد مستويات العنف والتدمير واسع النطاق ضد السكان الأصليين، وصولاً إلى حد الإبادة الجماعية كما يحدث الآن في قطاع غزة والضفة الغربية. كما يتدهور الكيان الاستيطاني إلى مستويات من الهمجية والعدمية والعزلة الدولية ونزع الشرعية، وصولاً إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وإصدار أوامر باعتقال قادته المتورطين في جرائم الحرب والإبادة الجماعية.

تجذب فكرة النهايات الكارثية وتوقعاتها ونبوءاتها التشاؤمية اهتمام الوعي المسيحي الغربي، خاصة لدى البروتستانتية الكاريزمية التبشيرية. تسبب هذه النبوءات أحيانًا قلقًا وجوديًا لا تفسير منطقي له. ومن بين المصادر الشهيرة للنبوءات “سفر الرؤيا” في العهد الجديد، الذي ينسب إلى يوحنا صاحب “إنجيل يوحنا”، أحد رسل يسوع الناصري.

تؤدي بعض النبوءات دورًا مهمًا أو يتم توظيفها في السياسات الغربية، وبعضها نبوءات ذاتية التحقيق، حيث يسعى من تبنوها وآمنوا بها إلى تحقيقها دون انتظار “الإرادة الإلهية”. وهذا ينطبق على الصهيونية، كما أشار الناشط الحقوقي وأستاذ الكيمياء العضوية الراحل، إسرائيل شاحاك.

اليهود يؤمنون تقليديًا بظهور “المسيا” الذي “يعيدهم” إلى الأرض المقدسة في آخر الزمان بـ”الإرادة الإلهية”. لكن الحركة الصهيونية رفضت انتظار “الإرادة الإلهية” وقررت تحقيق العودة بمشروع استيطاني إمبريالي عنيف ضمن مشروع الاستيطان الأوروبي العالمي الأوسع.

نبوءة عودة المسيح في آخر الزمان ومعركة “أرمجدّون” الحاسمة بين قوى الخير والشر، والتي تعقبها ألف عام من الحياة السعيدة، وارتباط هذه الأحداث بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة، أدت دورًا مهمًا في نشوء حركة الصهيونية المسيحية منذ القرن التاسع عشر بين الإيفانجيليين في بريطانيا والولايات المتحدة. وكان أحدهم، اللورد شيفتسبري، حاضراً بجانب ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، الذي وضع إطار المشروع الصهيوني والدولة اليهودية في فلسطين.

في أوقات مفصلية مثل نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، تزدهر نبوءات التشاؤم الكارثية، متوقعة أحداثًا كارثية وكونية ضخمة قد تقع في تلك اللحظة، رغم أن أيًا من هذه النبوءات لم يتحقق.

اليهود لديهم مصادر أخرى لنبوءات النهايات الكارثية في أسفار العهد القديم، التي تنذر بـ”العذاب والكآبة”. وتكررت عبارة “وعمل بنو إسرائيل الشر في عين الرب” في مناسبات لها علاقة بانحرافات كارثية مثل زواج ملوكهم بالكنعانيات وعبادة البعل، وقد تصدى النبي إلياس لذلك.

الباحث إبراهيم الدبيكي، في دراسته عن “أدب النهايات” في الرواية العبرية المعاصرة، قارن بين أدب المدينة الفاضلة (يوتوبيا) وأدب المدينة الفاسدة والنهايات الكارثية (ديستوبيا)، مبرزاً كيف شهد الأدب العبري الحديث كلا النوعين.

اليوتوبيا الصهيونية كانت الحاضرة الأبرز في الأدب العبري في القرن الماضي، مثل أعمال ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، التي لعبت دوراً كبيراً في نشر الأيديولوجيا الصهيونية وإغراء يهود أوروبا بالهجرة إلى فلسطين.

زر الذهاب إلى الأعلى