الأخبار العالمية

ألمانيا تخلع عباءة التقشف: تحوّل استراتيجي يمهد لعصر جديد من الاستقلال والدور العالمي

في مقال نُشر بمجلة فورين أفيرز الأميركية، يناقش الباحثان مايكل كيميج وسودها ديفيد-ويلب التداعيات العميقة لقرار ألمانيا التخلي عن “نظام كبح الديون” الدستوري، ما يمهد الطريق أمام اقتراض مئات المليارات من الدولارات لتحديث بنيتها التحتية وإعادة تسليح جيشها.

ويرى الكاتبان أن هذا التحول المالي والعسكري الكبير قد يكون مكسباً لأوروبا في ظل ما يعتبرانه عدواناً روسياً وتراجعاً في الالتزام الأميركي، لكنه في الوقت ذاته يحمل في طياته مخاطر مستقبلية، مشيرين إلى تحذير هنري كيسنجر بأن “ألمانيا كبيرة جداً على أوروبا، وصغيرة جداً على العالم”.

نقطة تحول.. لكن متأخرة

لعدة سنوات، ظلت ألمانيا تتجنب تعزيز قدراتها الدفاعية رغم التهديدات المتصاعدة. وعندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، اكتفت برلين بردود دبلوماسية خجولة وعقوبات محدودة، قبل أن تعود إلى علاقات شبه طبيعية مع موسكو.

لكن مع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في 2022، أعلن المستشار أولاف شولتس ما سماه “نقطة تحول” أو Zeitenwende، متعهداً بزيادة الإنفاق الدفاعي وتقديم دعم أكبر لكييف. إلا أن الانقسامات داخل الائتلاف الحاكم أضعفت تنفيذ هذه الوعود، فبقيت التحركات الألمانية في هذا الاتجاه خجولة.

بداية الاستقلال عن واشنطن

مؤخراً، بدأت ألمانيا تتخذ خطوات أكثر جرأة. ففي فبراير الماضي، شهدت البلاد انتخابات مبكرة، وظهرت مؤشرات على أن الحكومة المقبلة تميل إلى تعزيز استقلال القرار الألماني عن الولايات المتحدة. وبدلاً من الاعتماد على المظلة الأمنية الأميركية، بدأت برلين إعادة النظر في أولوياتها الدفاعية والاقتصادية، متخلية عن سياسة التقشف الصارمة التي قيدت إنفاقها لعقود.

وبعد إلغاء نظام كبح الديون الذي كان يحد الاقتراض بنسبة 0.35% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، بات بإمكان ألمانيا استثمار تريليونات الدولارات في تحديث الجيش وتنشيط الاقتصاد، الأمر الذي سيمكنها من دعم أوكرانيا دون الاصطفاف التلقائي خلف واشنطن.

تداعيات القوة الألمانية الجديدة

يشير الباحثان إلى أن هذه الاستقلالية المتزايدة قد تعزز مكانة ألمانيا في أوروبا والعالم، وقد تشكل نموذجاً يُحتذى به لدول أخرى في دعم أوكرانيا. إلا أن لهذا التحول ثمناً: إذ ستكون ألمانيا مسؤولة بشكل أكبر عن ردع روسيا، وهو عبء ثقيل ومحفوف بالتحديات، خاصة في حال صعود تيارات قومية متطرفة قد تستغل هذه القوة الجديدة لأغراض عدوانية.

من ميركل إلى شولتس.. ثبات في السياسات

لسنوات، حافظت ألمانيا، خصوصاً خلال حكم أنجيلا ميركل، على نهج يعتمد على التعددية والدبلوماسية، متجنبة اللجوء إلى القوة العسكرية. حتى بعد غزو القرم، تمسكت ميركل بفكرة أن لا حل عسكرياً للأزمة، وسعت لحماية النظام الأوروبي القائم بعد الحرب الباردة.

خلفها، أولاف شولتس سلك النهج ذاته، حتى في لحظة إعلانه “نقطة التحول”، التي ظلت نظرية أكثر منها عملية، بسبب القيود الدستورية والسياسية التي حالت دون تنفيذ وعوده الطموحة.

معوقات داخلية وتحولات حزبية

تاريخياً، يرتبط الحزب الديمقراطي الاجتماعي –حزب شولتس– بعلاقات قديمة مع روسيا، ترجع إلى جهود ألمانيا الغربية لتطبيع العلاقات مع دول الكتلة الشرقية خلال السبعينيات. كما واصل عدد من الأحزاب الألمانية، حتى بعد الغزو الكامل لأوكرانيا، تأييد علاقات مستقرة مع موسكو.

وفي ظل هذا المناخ، ازدهر حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، الرافض لحلف الناتو والمؤيد لبوتين، وازدادت شعبيته لتصل إلى 20% في الانتخابات الأخيرة، مما زاد من صعوبة تحرك شولتس بمرونة على الصعيد الأمني والسياسي.

ميرتس.. موسم الحشد

اليوم، يبرز فريدريش ميرتس، زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي وخليفة محتمل لشولتس، كقائد لمرحلة جديدة، رغم خلفيته المؤيدة تقليدياً للولايات المتحدة. لكن تغير المزاج الشعبي في ألمانيا، وتراجع الثقة بالأمن الأميركي، دفعاه إلى إعادة النظر في مفاهيم “الالتزام الغربي” وفتح الباب أمام سياسات أكثر استقلالية.

وقد وافق البرلمان الألماني في مارس/آذار بأغلبية الثلثين على إلغاء نظام كبح الديون، ما يسمح بإنفاق يتجاوز تريليون دولار في السنوات القادمة على الدفاع والبنية التحتية، وهو ما يتماشى مع أجندة ميرتس لتعزيز القدرات العسكرية والاستخباراتية والأمنية لألمانيا.

تحوّل يتجاوز أوكرانيا

التحول الألماني لا يتعلق فقط بالحرب في أوكرانيا، بل هو نتيجة وعي استراتيجي جديد بأن الصيغ السياسية والاقتصادية القديمة لم تعد تصلح في ظل عالم تتراجع فيه الثقة بالحليف الأميركي.

وبينما لم يعد بإمكان الألمان الاعتماد على واشنطن لضمان أمن القارة، فإنهم يتجهون إلى صياغة دور جديد لبلادهم، يكون أكثر حضوراً واستقلالية وتأثيراً في أوروبا والعالم.

زر الذهاب إلى الأعلى