
منذ الاستقلال وحتى اليوم، مرّت موريتانيا بعدة مراحل سياسية واقتصادية، وشهدت البلاد موجات من الإصلاحات المالية المرتبطة بقرارات رئاسية تعهدت بزيادة رواتب الموظفين العموميين بنسب كبيرة تصل أحياناً إلى 100%. ومع ذلك، فإن واقع التطبيق يعكس تناقضاً واضحاً بين التوجيهات العليا وتنفيذها على الأرض، إذ غالباً ما يلجأ وزراء المالية إلى تجاهل جوهر تلك التوجيهات أو تحويرها لتكون الزيادات على شكل علاوات هامشية، لا تُدرج في الراتب الأساسي ولا تؤثر على تقاعد الموظف.
أولاً: مظاهر السياسات المالية المتناقضة
- الفجوة بين القرار والتطبيق: رغم إعلان الرؤساء عن زيادات مهمة في الرواتب، إلا أن هذه القرارات لم تُطبق بشكل مباشر على الكتلة الأساسية للأجور، بل جرى تفريغها من مضمونها عبر تحويلها إلى علاوات مؤقتة.
- غياب المراجعة الجذرية لهيكل الرواتب: لم تشهد موريتانيا منذ 1967 إصلاحاً شاملاً للبنية العامة للأجور، ما أدى إلى جمود مزمن لا يعكس التطورات الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة.
- تمييز غير مبرر بين القطاعات: في الوقت الذي تُهمل فيه زيادات موظفي الدولة بشكل عام، تُمنح امتيازات استثنائية للعاملين في وزارات محددة كوزارة المالية، مما يخلق شعوراً باللاعدالة والتمييز.
ثانياً: الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه السياسات
- ضعف القدرة الشرائية للموظف: يؤدي تجميد الرواتب الأساسية إلى تآكل القيمة الشرائية في ظل التضخم وتزايد تكاليف المعيشة.
- تدني الحوافز الوظيفية: غياب الأمان المالي والتقدير الفعلي لجهود الموظفين يساهم في انتشار اللامبالاة والفساد الإداري.
- تفاقم الفوارق الطبقية: يؤدي غياب العدالة في توزيع الأجور إلى توسيع الفجوة بين فئات المجتمع، خاصة بين النخبة الإدارية وبقية الموظفين.
- تأثير سلبي على نظام التقاعد: لأن العلاوات لا تدخل في الراتب الأساسي، فإنها تُستبعد عند احتساب التقاعد، مما يضع المتقاعدين في ظروف مالية صعبة.
- خلخلة الثقة بين المواطن والدولة: عندما يُنظر إلى الدولة على أنها لا تفي بالتزاماتها، تضعف الروح الوطنية والانتماء الوظيفي.
ثالثاً: الأبعاد السياسية والإدارية للمشكلة
يمكن تفسير مواقف وزراء المالية باعتبارات اقتصادية أو حسابات تتعلق بترشيد النفقات، لكن استمرار هذا التوجه لعقود يشير إلى خلل مؤسسي في التوازن بين السلطات التنفيذية والمالية. كما أن تضارب المصالح داخل القطاعات الوزارية، وغياب الشفافية في إدارة الموارد، يعزز منطق الفساد والمحسوبية.
خاتمة وتوصيات:
إن الإصلاح الحقيقي للسياسات المالية في موريتانيا لا يمكن أن يتم دون مراجعة جذرية لهياكل الأجور، وتفعيل الرقابة على تنفيذ القرارات الرئاسية، وضمان أن تكون الزيادات ذات أثر دائم على رواتب الموظفين. كما يجب تبني نهج شفاف وعادل في توزيع الموارد، يرتكز على مبدأ الكفاءة والعدالة الاجتماعية.