السياسة ليست بكاءً على الأطلال، والحوار ليس مقايضة على جراح الماضي.

حين يُطرح الحديث عن “الحوار الوطني”، فالأصل أن يكون هذا الحوار فعلًا سياسيًا راقيًا، يؤسس لتعاقد وطني جديد، لا مجرد تمرين تفاوضي لاقتسام النفوذ أو تصفية الحسابات المؤجلة. إن نجاح الحوار لن يكون ممكنًا ما لم ندخله بعقلية وطنية صافية، متخففة من التكتيكات الحزبية قصيرة النفس، ومترفعة عن نزعات التموقع والمزايدة.
إنّ المطلوب من الطبقة السياسية، سلطةً ومعارضة، ليس فقط التلاقي في قاعة واحدة، بل الارتقاء في مستوى الخطاب إلى حيث يصبح الوطن هو نقطة الالتقاء الوحيدة الممكنة، فوق كل الاصطفافات والهويات الفرعية، وفوق كل الحسابات المرتبطة بدورة انتخابية هنا أو حصة تمثيل هناك.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف أمام ظاهرة بدأت تفرض نفسها على المشهد السياسي، وهي صعود بعض الخطابات المتلفعة بالسياسة، لكنها في جوهرها لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج لمظلومية تاريخية لفئة أو جهة أو مكون اجتماعي معيّن. ورغم مشروعية هذه المظالم من حيث المبدأ، فإنها تصبح قاصرة سياسيًا حين تُطرح كبديل وطني أو كأداة للتمايز السياسي.
لا يمكن لمن يطمح إلى الحكم في دولة متعددة الأعراق والمكونات كالجمهورية الإسلامية الموريتانية أن يبقي خطابه أسيرًا لمظلومية جماعته أو مجتمعه الضيق. فالدولة، بحكم تعريفها، كيان جامع، والسياسة في فضائها ليست وسيلة لبناء هوية جماعية مقابِلة، بل مشروع لتوحيد الهويات داخل عقد وطني مشترك.
الخطاب السياسي الذي يُناسب مناضلي حقوق الإنسان، لا يُناسب السياسيين الذين يطلبون ثقة الشعب لحمل مسؤولية الدولة. فهؤلاء الأخيرون، مطالبون بخطاب يتجاوز العرق والجهة والطبقة، ويخاطب الإنسان الموريتاني حيثما كان، لا بصفته منحدرًا من مكوّن معين، بل بصفته مواطنًا في دولة يجب أن تكون عادلة مع الجميع.
وحين نُمعن النظر في التجارب التي قدمها بعض حاملي هذا النوع من الخطاب في الانتخابات الماضية – سواء على مستوى البلديات أو البرلمان – نلمس هشاشة المشروع، وضعف الرؤية، وعجزًا بيِّنًا عن تقديم نخب قادرة على القيادة، أو بناء برنامج سياسي يُطمئن إليه عموم الشعب.
والأسوأ من ذلك، أن من يتبنون هذا الخطاب الضيق، حين أُتيحت لهم فرصة تمثيل الناس، لم يقدموا نموذجًا يُحتذى، بل تجاوزوا كل النخب المثقفة المحسوبة على من يمتطون مظلمتهم التاريخية؛ تلك النخب التي عُرفت برصانتها الفكرية، واعتدالها في الطرح، وحرصها الصادق على إيجاد موطئ قدم كريم لمكونها ضمن المشروع الوطني، دون أن تُفرّط في الانتماء للوطن الجامع. لقد تجاهل هؤلاء المرجعيات الفكرية والسياسية المعتبرة داخل مكونهم، واعتلوا المشهد بخطاب فارغ من أي رؤية، وفقير من حيث الفكرة، لا يملكون من أدوات السياسة سوى التهجم على مكونات أخرى من الشعب، مستخدمين أوصافًا لا أخلاقية، لا تمتّ إلى الخطاب السياسي الناضج بصلة، ولا تصلح أن تُقدَّم لشعب يتطلع إلى مستقبل جامع.
فأين هو المشروع الوطني البديل؟ وأين هو الأفق الذي يُفتح أمام النخب لتكونوا جزءًا من الحل؟ بل، أين هو الحس الاستراتيجي في التعامل مع تحديات الدولة والمجتمع؟
من لا يمتلك القدرة على مخاطبة الوطن كوحدة متكاملة، لا يمكنه أن يدّعي الجدارة بقيادته.
إننا اليوم في لحظة فارقة، إما أن ننتج منها عقدًا وطنيًا جديدًا جامعًا، أو نُعيد إنتاج نفس الحلقة المفرغة التي أوصلتنا إلى هشاشة الثقة، وتآكل المؤسسات، وتشرذم الوعي.
النائب البرلماني عن حزب الانصاف محمد ولد اباه