الكولونيالية الانقلابية في موريتانيا بين تأزيم الهويات وتأزيم الإنسان
غيَّب الموت أغلب الشخصيات التي أحبّت موريتانيا منذ استقلالها، بينما تكبّلت البقية القليلة بالعجز والمرض، تاركة الساحة لفئة من الكولونياليين، الانقلابيين، والطابور الخامس. هؤلاء باتوا ينخرون في أساسات المستقبل ويتوسعون في مختلف مناحي الحياة الموريتانية دون توقف. لقد استحوذوا على الوطن كما يفترس الذئب فريسته، وقادوه كما يقود أعمى سيارة بلا مصابيح في ليل دامس، أو كما يبحر قراصنة بسفينة استولوا عليها بالقوة، وهم يغامرون بها في بحر هائج لا ساحل له ولا طريق للنجاة.
الكولونيالية، مصطلح يُقابله بالعربية “الاستعمار”، وفي معناه اللغوي يشير إلى إعمار الأرض وتحقيق الرفاهية والعدل للسكان. أما اصطلاحاً، فقد اتفق المؤرخون على أنه يعني احتلال الأرض، سواء كانت دولة أو إقليماً، مع قمع سكانها ونهب مواردها وتحويل حياتهم إلى جحيم متواصل من الذل والفقر. ومع مرور الوقت، وعندما يأتي وقت النضال للتحرر من المستعمر، يتحد الشعب مع مناضليه ليضربوا بيد من حديد من أجل نيل الحرية. في المقابل، يلجأ المستعمر إلى أساليب خبيثة للبقاء، أشهرها سياسة “فرق تسد”، وخلق انقسامات بين أبناء الشعب على أسس عرقية وإثنية، مع إشاعة الخوف وتأجيل النضال مقابل الأمن والغذاء.
وحين تفشل هذه الأساليب، يلجأ المستعمر إلى الاغتيالات والتصفية الجسدية، أو تلفيق الفضائح لقادة المقاومة. كما يعمد إلى نشر الفساد الأخلاقي لإيجاد جيل من العملاء الذين يبيعون وطنهم مقابل الملذات والمال. ومع مرور الزمن، يتحول هؤلاء العملاء إلى طابور خامس ودولة عميقة داخل الدولة، يسيطرون على المراكز الحيوية مثل الجيش والأمن والمخابرات، وحتى الصحافة والجامعات ووسائل التواصل الاجتماعي.
تزداد قوة الكولونيالية إذا استسلم الشعب لها، وتضعف عندما يجد المناضلون طريقهم إلى الاتحاد ضدها. وهذا هو المشهد الذي ستتساءل عنه قلوب الناس: من تنطبق عليهم هذه الأوصاف؟ سيجيب الضمير: كأنهم حكام موريتانيا اليوم!
ليس مجرد تشابه، بل إنهم هم، بملامح استعمارية أدخلت موريتانيا في دوامة منذ انقلاب 1978، الذي ظنه البعض في البداية إصلاحياً، لكنه تبيّن بعد عقود أنه كان بداية لكولونيالية جديدة بقيادة نخبة عسكرية. وكلما اقتربت لحظة الخلاص منها والعودة إلى السلطة المدنية، بدلت هذه النخبة جلدها مثل أفعى الكوبرا، ووجدت من يعينها على العودة من جديد، وكأنها قطة بسبع أرواح لا تموت.
رغم كل هذا الطغيان الذي أبدته خلال العقود الماضية، لم تتوقف هذه الطغمة عن إغراق البلاد في مستنقع الفساد والبطش الذي يضمن استمرارها لفترة أطول، وهو أمر لا يعلم إلا الله كيف سينتهي.
لقد حولت هذه الطغمة موارد موريتانيا وخيراتها إلى ملكية خاصة لها ولأبنائها وأقاربها، وعمقت أزمة الهوية الوطنية والإنسان الموريتاني إلى درجة قد يصعب علاجها إلا عبر ثورة أو تغيير عنيف.
أزمة الهوية:
إن غياب ثلاث هويات أساسية بعد الانقلاب على النظام المدني – الهوية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية – ساهم في تزايد التيه الذي تعيشه موريتانيا اليوم. تأسيس موريتانيا كان على مسار واضح قبل أن تُلغى هذه الأسس بفعل الانقلابات العسكرية المتعاقبة، التي أدخلت البلاد في دوامة من التحزب القبلي والجهوي، وجعلت أخلاق الدولة سائبة، مما أزم الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
1. أزمة الهوية السياسية:
الهوية السياسية هي الأساس الذي تنبثق منه الدولة، وهي غالباً ما تتأثر بالتيارات السائدة في الإقليم وقت النشأة. فإن وُلدت الدولة في ظل صعود تيار سياسي مثل الرأسمالية أو الاشتراكية، فإنها تتأثر به. وفي أحيان أخرى، تُفرض الهوية السياسية عبر الثورات أو الانقلابات.
غياب هذه الهوية السياسية في موريتانيا منذ أول انقلاب جعل البلاد تعيش تيهاً سياسياً لا تزال تداعياته مستمرة إلى اليوم. الانقلاب الأول لم يكن ناتجاً عن صراع أيديولوجي دولي، بل كان هروباً من حرب وتخلياً عن المسؤولية الترابية. الانقلابيون يومها فشلوا في الانتماء إلى أي من الأقطاب الدولية، سواء الشرقي أو الغربي، وابتدعوا هوية سياسية مشوشة ارتجالية، أخذت بعض العناصر من إرث النظام المدني السابق، واستغلت سمعة الإسلام لتبرير سياساتهم، بينما حافظت على الهوية العلمانية الفرنسية في الإدارة.
هذا الخلط العشوائي بين الأنظمة حتم على الانقلابيين الحفاظ على السلطتين القضائيتين اللتين أسسهما النظام المدني، واحدة تحكم بالقانون الوضعي والأخرى بالشريعة الإسلامية. كانت هذه الازدواجية أقرب إلى النفاق المؤسسي، ولم تنجح في تأسيس هوية سياسية حقيقية تتطلبها دولة تسعى إلى الحكم الرشيد.
ومع مرور الزمن، أصبح من الواضح أن الهدف الحقيقي للانقلاب كان إنهاء الحرب والتخلي عن الأراضي، وليس الإصلاح كما زعم قادة الانقلاب.
أزمة الهوية الاقتصادية:
الهوية الاقتصادية تمثل خيارًا حاسمًا تتبناه الأنظمة الحاكمة، سواء كانت تلك الأنظمة مؤسسة أو ناتجة عن انقلاب أو ثورة. هذا الخيار عادة ما يتم تحديده من خلال منهج تسييري يتوافق عليه المؤسسون. بعد الثورة الفرنسية، تبنت معظم الدول الأوروبية النظام الليبرالي كهوية اقتصادية، نظرًا للآفاق الواعدة التي يقدمها لتطور المجتمع، وقدرته على تمكين الدولة من التركيز على التنظيم وحماية الأفراد والممتلكات.
لكن هذه الليبرالية التي روج لها الفلاسفة في عصر الأنوار قد تراجعت بشكل كبير اليوم. فالعديد من الدول تحتفظ الآن بوسائل الإنتاج والمشاريع الحيوية، ما ساعدها في فرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي وتحقيق رفاه شعوبها. في المقابل، تم إهمال هذا الجانب في موريتانيا، حيث تحول اقتصادها إلى ساحة فساد تخدم البرجوازيين وأباطرة الفساد وشيوخ القبائل، مشكلين طبقة تتحكم في الثروة بطريقة تشبه النظام الإقطاعي الروماني القديم. نتيجة لذلك، تواصلت أجيال متعاقبة منذ تأسيس الدولة تعاني من الفقر والجهل، خاضعة لهيمنة قلة من الفاسدين الذين تمكنوا من السيطرة على وسائل الإنتاج الحيوية.
تحكم البرجوازيون في موارد البلاد من خلال الامتيازات التي حصلوا عليها في مجالات مثل الصيد، الأراضي الزراعية، شركات البناء، والأسهم في الشركات القومية مثل شركة “اسنيم”، إلى جانب شركات التنقيب عن الذهب والمؤسسات الطبية. هذه السيطرة المطلقة ساهمت في تهميش الدور الحقيقي للدولة كحارس للعدالة الاجتماعية. كما أن سيطرة البرجوازية على هذه القطاعات عمقت التمايز الإثني والقبلي، وجعلت الثروة محتكرة لأفراد بعينهم، ما أدى إلى حدوث شرخ اجتماعي كبير وإحساس بالغضب والإقصاء بين غالبية الشعب.
هذا الوضع يدعو إلى مراجعة شاملة لهوية الدولة الاقتصادية، فاستمرار النظام الحالي دون أي تغيير جذري قد يؤدي إلى ثورة عنيفة. الثورات ليست بالضرورة سيئة كما يتم تصويرها؛ فالتغييرات التي شهدتها بعض الدول العربية مثل المغرب والسعودية في عهد بن سلمان، ودولة الإمارات، كانت بمثابة برهان على أن الثورة ليست دائمًا مرادفة للفوضى. على العكس، الاحتجاجات العنيفة قد تكون إيذانًا بنهاية الفساد والامتيازات غير العادلة.
إن الهوية الاقتصادية هي الضامن لاستمرار الأجيال وتحقيق العدالة في توزيع الثروة، لذلك فإن غيابها أو فشلها في موريتانيا لن يؤدي إلا إلى زيادة التوترات الاجتماعية، وقد لا يكون الحل إلا في الثورة، التي تشبه الجراحة الضرورية لتصحيح مسار الدولة.
دول عديدة، مثل الدول الأوروبية والآسيوية، أدركت أهمية الهوية الاقتصادية واستثمرت في تحالفات اقتصادية، مثل “مجموعة بريكس” التي تبحث في إنشاء عملة تنافس الدولار واليورو، وكذلك دول الخليج والاتحاد الأوروبي ومنظمات مثل “أوبك”.