المتقاعدون / المرتضى محمد أشفق( بتصرف..)

في خضم الإجراءات الإدارية المتعلقة بتسجيل المتقاعدين، تبرز لحظات تستحق التأمل العميق في دلالة الألفاظ والمواقف. من المثير أن كلمة “متقاعد” تحمل في بنيتها الصرفية طابعًا دالًا على التظاهر بالفعل دون تحققه، تمامًا كما في ألفاظ مثل “تناوم” و”تماوت”، مما يثير تساؤلًا عن مدى انسجام الاسم مع حقيقة الحال: كيف يتقاعد المرء قعودًا ظاهريًا وهو لم يستقر؟ وكيف يصير التقاعد حالة “تمثيل” لقعود لا يعبر بالضرورة عن الراحة، بل أحيانًا عن انتظار لا ملامح له؟
تُعدّ هذه المرحلة انتقالًا وجوديًا بامتياز، حيث يشعر الإنسان فيها وكأنه ينزلق طواعية إلى حافة زمنية ضبابية، يودع فيها ماضٍ لا يمكن استعادته، ويعيش الحاضر كظل لما كان. يمضي المتقاعد نحو هذه الحالة وسط مشاعر مركبة من الحنين، والانفصال، والتسليم بمرور الزمن. صباحاته التي كانت يومًا مليئة بالنشاط تغدو علامات خافتة لفقدان تدريجي للحيوية، وتجاعيده التي خطها الزمن على وجهه باتت شواهد ناطقة على رحلة العمر.
وفي لحظة رمزية، يتلقى المتقاعد إشعارًا بضرورة التسجيل، ليجد نفسه مجددًا داخل طوق الإجراءات الإدارية التي ظن أنه تحرر منها، فيشعر كأنما الزمن أعاده إلى عهد الطاعة المؤسسية والانضباط الرسمي، في وقت يتوق فيه إلى الحرية والسكينة. ويزداد الموقف رمزية حين يصطدم، مع رفاقه من المتقاعدين، بواقع تغيّر الأمكنة التي كانت يومًا مسرحًا لوجودهم الفاعل، فلم تعد المدارس تعرفهم، ولا الحراس يفتحون لهم الأبواب، فيغدو الزمن كالسديم: لا يرجعه الحنين، ولا تحكمه الذكريات.
أما عند مركز التسجيل، فالمفارقة تأخذ شكلًا أكثر حدة: الطابور الذي كان يومًا رمزًا للانضباط، يتحول إلى مساحة غير رسمية للتنفيس والتعبير عن الذات، ومبصمة التسجيل البيومتري تصبح خصمًا عنيدًا، تتطلب صبرًا طويلًا ويدًا ما عادت تحتفظ بخطوطها القديمة. هنا، يظهر شكل جديد من الشيخوخة: شيخوخة البصمة، حين تمّحي العلامات الفريدة من أطراف الأصابع، كأن الزمن قرر أن يطمس حتى البصمة، في تعبير دقيق عن التلاشي التدريجي للهوية الحسية.
أمام هذا الواقع، تبدو لحظة التسجيل كنبش في ذاكرة الجسد، واستدعاء لبقايا الإنسان الذي كان، محاولة أخيرة لإثبات حضور مادي وسط التلاشي الرمزي. ويزداد هذا المشهد poignancy حين يُقابل التحدي بتعليقات ساخرة من جيل جديد لا يدرك قيمة ما مضى، ويجهل صعوبة أن تحاور الزمن حين يصر على التقدم.
تُختتم التجربة بنبرة إنسانية، إذ تُذكر الوالدة الكريمة – رمز الأمهات المتقاعدات – بضرورة التحضير الجسدي والنفسي لهذا الامتحان البيومتري، مع نصيحة بالتوجه إلى مركز يتعامل مع العجزة بصبر واحترام. وهكذا، تتحول تجربة التسجيل من مجرد إجراء إداري إلى مرآة تعكس رحلة الإنسان في الزمن، وتوثّق لحظة مفصلية بين ماضٍ غابر وحاضر لم يعد يخصه