تاريخ كارثة إعصار دانيال: توثيق الأديب عبد الفتاح بو حورة الشلوي للفيضانات وتداعياتها
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لكارثة إعصار “دانيال” المدمر، تظل هذه الكارثة قضية مفتوحة، لا تزال ملفاتها الشائكة بحاجة إلى الحلول، خصوصًا على الصعيد الرسمي. من بين هذه الملفات، تأتي الحصيلة النهائية للضحايا، جبر الضرر، إعادة إعمار المدينة المنكوبة، والتحقيق في الأسباب التي فاقمت الأضرار، ومحاسبة المسؤولين عنها بشكل فعلي.
إلا أن شاهدًا على الحدث وأحد المتضررين لم يركز كثيرًا على مسؤولية السلطات، بل أخذ على عاتقه منذ الأيام الأولى مسؤولية توثيق الكارثة. دأب على نشر الحقائق والأرقام والمعلومات التي خشي كثيرون أن تجرفها السيول مع ما جرفت في أحلك ليالي مدينة درنة (1000 كيلومتر شرق طرابلس).
فيما تقاعست الجهات المسؤولة عن القيام بواجبها على مدى قرابة عام كامل، حاول أحد أبناء درنة وكبار مثقفيها جمع كل ما يمكن بين دفتي كتاب صدر قبل أيام بعنوان “فيضان درنة بين البحر والسدين”. يقع الكتاب في 572 صفحة، مقسمة على 22 فصلًا، ويضم 3200 اسم من ضحايا الفيضان (عدد غير نهائي)، الذي سببه إعصار غير مسبوق ضرب سواحل شرقي ليبيا، وغمرت أمطاره مدينة درنة الساحلية ليلة 11 سبتمبر/أيلول 2023، بعد أن تسببت السيول الجارفة في تدمير سدود أودية المدينة الواقعة بين الجبل والبحر.
الكتاب، الذي استغرق إعداده 10 أشهر منذ صبيحة الفيضان المدمر، يسرد 266 قصة تعمد مؤلفه تضمينها دون أدنى تعديل أو اختصار أو تصويب لغوي أو تحريري. يؤكد المؤلف أنه تعامل مع القصص التي وصلته من الشهود على أنها وثائق أصلية كتبت منذ مئات السنين على رقع غزال، معتبرًا إيصالها كما هي أمانة.
جاء الكتاب جامعًا بين القصص والتأريخ والإحصاء والتوثيق، فجاءت معظم قصصه دامية موجعة اعتصرت قلب من روى وجمع قبل قلب من قرأ. يستدل الكاتب بما قالته مسؤولة في منظمة رعاية الطفولة (يونيسيف) إن “64% من أطفال مدينة درنة مأزومون نفسيًا ويحتاجون لرعاية خاصة”.
إلى جانب القصص والشهادات الحية، أورد المؤلف تحذيرات سابقة لخبراء محليين ووطنيين من تهالك سدود مدينة درنة وما قد تخلفه من دمار في حالة سقوط أمطار غزيرة، وهو ما حدث ليلة 11 سبتمبر/أيلول 2023، حين احتجزت السدود العتيقة -التي لم تخضع لأي صيانة منذ عقود- 6 أضعاف قدرتها، حتى إن خبراء عالميين قدروا المياه المتدفقة تلك الليلة بأكثر من 8 آلاف متر مكعب من المياه في الثانية.
الكتاب، الذي يعد الأول من نوعه بعد الكارثة حتى الآن، قدم له العميد السابق لكلية الآداب بجامعة طرابلس، عبد الله مليطان، واصفًا كاتبه بـ”الباحث بروح المحب لوطنه وبإخلاص المنحاز للحقيقة”. قال إن المؤلف كتب الكتاب “متجردًا عن العاطفة، ومنتقدًا بموضوعية لكل الأطراف، صائغًا عباراته بلغة مبسطة وواضحة. رصد حادثة الفيضان وسيرة مأساة أكبر كارثة تحل بالوطن”.
أكد المؤلف بدوره أن منجزه عمل وطني إنساني خالص يوثق لأكبر كارثة طبيعية شهدتها ليبيا، مشيرًا إلى أنه لا يستهدف إدانة هذا المسؤول أو تبرئة ذاك، بل إن الكتابة بدأت كمحاولة منه لاستيعاب الحدث الجلل والتعامل معه بعد أيام من الصدمة والذهول.
الجزيرة نت اطلعت على الكتاب بمجرد صدوره، والتقت مؤلفه الأديب والسياسي السابق عبد الفتاح بو حورة الشلوي وأجرت معه هذا الحوار:
“فيضان درنة بين البحر والسدين”.. بداية، لماذا هذا الكتاب؟
جاءت فكرة الكتاب لتلافي القصور الذي طال تاريخ فيضانات سابقة لوادي مدينة درنة الجبلية، مثل فيضاني 1959 و2011. رغم فداحة الفيضانات السابقة، لا نملك عنها معلومات دقيقة، وهو ما خشيت أن يتكرر بعد كارثة عاصفة دانيال الأخيرة.
الحدث كان جللًا وأربك في أيامه الأولى السلطات والمنظمات المحلية والدولية. كيف جاءت لك الفكرة والمقدرة على التوثيق وآثار الكارثة لم تنحسر بعد؟
نعم، كانت آثار العاصفة أكبر منا جميعًا، بل من دول مستقرة بإمكانياتها. جاءت في ظل انقسام سياسي يلف البلاد، وهذا ما دعاني إلى جمع الأخبار والصور ومتابعة الحدث أولًا بأول، خاصة أني ابن المدينة، وإن كنت خارجها. لم يكن ذلك سهلًا، بل كان ضاغطًا على مشاعرنا وأحاسيسنا. صحيح أني لم ألملم الموضوع بالكامل، لكني حصلت على ما يستحق النشر.
يسجل النقاد والباحثون والقراء أيضًا مآخذ عدة على كل ما هو تأريخي أو توثيقي، فما بالك بمثل هذا العمل الذي سيكون كثير من قرائه شهود عيان على الحدث. كيف تعاملت مع هذا التحدي؟
الكتابة عن حدث معاصر تحمل العديد من المحاذير والعقبات، فما بالك بكارثة ما زالت آثارها بيننا حتى اليوم. لكني ضاعفت الجهد ما أمكنني ذلك، وحاولت التوثيق بحرص وتأنٍّ، ونشرت بعض الشهادات كما جاءت دون أي تصرف مني، وتعاملت معها كأنها وثائق تاريخية لا يجب مساسها.
لاقى الكتاب احتفاء من القراء، وقاربت الطبعة الأولى على النفاد بحسب الناشر والموزعين في معظم المدن الليبية. ما سر هذا الإقبال على قراءة الكتاب في رأيك؟
مردُّه تعاطف الناس مع أهل درنة المنكوبة، ولجسامة الحدث الذي وصفه البنك الدولي في تقريره بأنه “أسوأ عاصفة ماطرة إزهاقًا للأرواح في قارة أفريقيا منذ عام 1900”.
قرأت عدة تعليقات على الكتاب تصفه بـ”حجر أساس” لكل من أراد التوثيق أو الكتابة لكارثة “دانيال”. هل سيكون هناك طبعات جديدة منقحة أو مزيدة أو حتى أجزاء أخرى لهذا الكتاب في المستقبل القريب؟
بالتأكيد، الحدث سيتناوله غيري من عدة زوايا، وسيكون حافزًا للعديد من الكُتاب والمهتمين باعتباره استحقاقًا وطنيًا وضرورة تاريخية كغيرنا من بقية البلدان، وموضع بحث ودراسة في الجانب الأكاديمي.