ثقافة

حرب المئة عام على فلسطين.. تاريخ الاستعمار والمقاومة

حرب المئة عام على فلسطين.. قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة

يعتمد الكتاب على دراسة أكاديمية كأساس لمحتواه، إلا أنه يتضمن أيضًا جانبًا شخصيًا، وهو جانب غالباً ما يُغفل في البحوث التأريخية الأكاديمية. فقد استند الخالدي في إعداده إلى تحليل مجموعة من المواد الأرشيفية التي لم يُستخدمها من قبل، بالإضافة إلى استشارة تقارير ومرئيات من أفراد عائلته، وكذلك مقابلات مع رؤساء البلديات والقضاة والعلماء والدبلوماسيين والصحفيين. وشملت هذه البحث أيضًا استفادة كبيرة من مخطوطات مكتبة جده الأكبر، التي كانت مملوكة للحاج راغب الخالدي.

قام ثيودور هرتزل (1860-1904)، زعيم الحركة الصهيونية الناشئة في تلك الفترة، بزيارة وحيدة إلى فلسطين في عام 1898، وفي نفس الوقت زارها أيضًا الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني (1859-1941).

بدأ هرتزل في تطوير أفكاره حول بعض قضايا استيطان فلسطين، وقد سجل في مذكراته التي كُتبت في عام 1895 ما يلي: “نحن بحاجة للاستيلاء بلطف على الأملاك الخاصة في المناطق المخصصة لنا. ينبغي تشجيع الفقراء من الشعب الذين يعيشون خارج حدود بلادنا على العمل في بلاد اللجوء، وعدم منحهم أي فرصة للعمل في أوطانهم. سيكون أصحاب الأراضي من جانبنا، ونحن بحاجة لتنفيذ سياسات احتلال الأراضي وترحيل الفقراء بحذر وتروي.”

في كتابه الجديد “حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة” الذي تم نشره حديثاً باللغة العربية عن طريق دار العربية للعلوم ناشرون، قام المؤرخ الفلسطيني الأمريكي البروفيسور رشيد الخالدي، الذي يشغل منصب أستاذ للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، بتسليط الضوء على ستة أحداث يعتبرها تحولًا في النزاع على فلسطين.

الأستاذ رشيد الخالدي يشغل منصب المدير لمدرسة الشؤون الدولية والمحلية التابعة لمعهد الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا. سابقا، شغل كرسي الأستاذ الراحل إدوارد سعيد للدراسات العربية في جامعة كولومبيا. علاوة على ذلك، شارك كمستشار في وفد الفلسطيني في مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية خلال الفترة من 1991 إلى 1993. من بين أبرز كتبه “الهوية الفلسطينية: بناء قومي حديث”.

الأحداث الستة التي يسلط المؤلف الضوء عليها تبدأ بوعد بلفور في عام 1917، الذي كان له تأثير كبير على مستقبل فلسطين، ومرورًا بحرب النكبة في عام 1948، وثم قرار مجلس الأمن رقم 242 في عام 1967، والذي كان له تأثير مهم على الوضع في المنطقة. تليها الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، ومن ثم اتفاقية أوسلو للسلام في عام 1993. تتضمن الأحداث أيضًا زيارة أرييل شارون إلى القدس في عام 2000 وصولًا إلى حصار إسرائيل لقطاع غزة والصراعات المتكررة مع الفلسطينيين في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

تفكيك البنية الاجتماعية في فلسطين

يشير المؤلف إلى أن هذه المراحل تلقي الضوء على الطبيعة الاستعمارية لحرب المئة عام على فلسطين، وعلى دور القوى الخارجية التي يعتبرها الكاتب أمرًا لا يمكن تجاهله في شن هذه النزاعات. الخالدي يؤكد أن هذا النموذج الاستيطاني الاستعماري تم تعزيزه بشكل كبير خلال حرب عام 1948، والتي يشهد عليها الفلسطينيون بتسميتها “النكبة”، بينما تعرف باسم “حرب الاستقلال” في الرواية الإسرائيلية. حيث تمكنت إسرائيل من السيطرة على ما يقارب 80٪ من الأراضي الفلسطينية.

المؤلف يوضح أنه قد سرد هذه القصة جزئيًا من خلال تجارب الفلسطينيين الذين عاشوا تلك الحرب، وكثيرون منهم ينتمون إلى عائلته.

ويستند الكتاب إلى بحث أكاديمي، إلا أنه يتضمن أيضًا عنصرًا شخصيًا غالبًا ما يُستبعد في التاريخ الأكاديمي. فاعتمد الخالدي على مجموعة من المواد الأرشيفية التي لم تستخدم سابقًا، بالإضافة إلى تقارير من أجيال من أفراد عائلته، ومن رؤساء البلديات والقضاة والعلماء والدبلوماسيين والصحفيين. واستند أيضًا إلى عدد كبير من المخطوطات الموجودة في مكتبة جده الأكبر الحاج راغب الخالدي، التي تحتوي على أكثر من 1200 مخطوطة ونحو ألفي كتاب باللغة العربية، إلى جانب بعضها بالفارسية والتركية العثمانية.

تدمير فلسطين

يشير المؤلف إلى أن هذا الكتاب ليس مجرد “رؤية حزينة” للمائة سنة الأخيرة من تاريخ فلسطين، ولا مجرد استعارة من نقد سالو بارون (1895-1989)، مما يلخص روح الكتابات التاريخية اليهودية في القرن التاسع عشر.

ويقدم الخالدي شرحًا قائلاً: “اتُهم الفلسطينيون من قبل أنصار الذين ظلموهم بأنهم ينغمسون بالشعور بالضحية، ولكن في الحقيقة واجه الفلسطينيون ظروفًا صعبة جدًا، وأحيانًا كانت غير قابلة للتحمل، تمامًا مثل باقي سكان الأمم الأصلية الذين واجهوا الاستعمار والهجمات.”

يشير المؤلف إلى أن الفلسطينيين عانوا من هزائم متكررة وتشتت، وغالبًا ما كانوا بلا قيادة فعالة. ومع ذلك، يلاحظ أن هذا لا يعني أن الفلسطينيين لم ينجحوا أحيانًا في التغلب على هذه الصعوبات، أو أنهم في أوقات أخرى لم يستطيعوا اتخاذ قرارات أفضل.

البروفيسور خالد الحروب، الأستاذ في دراسات الشرق الأوسط في جامعة نورثويسترن، يُشير بدوره إلى أن القيادات الفلسطينية ارتكبت أخطاء جسيمة، ويشدد على أن أحد أهم هذه الأخطاء هو محاولة الفصل بين الوجود البريطاني والمشروع الصهيوني، واللجوء إلى البريطانيين كوسيطين نزيهين دون أن يتم الاعتراف بدورهم في تدمير فلسطين منذ البداية.

ويشدد الخالدي على أنه لا يمكن تجاهل الأثر الكبير للقوى الدولية والإمبريالية التي تآمرت ضد الفلسطينيين، والتي غالبًا ما تتم تجاهلها وتقديرها بشكل غير كاف. ويُظهر أن الفلسطينيين تصدوا لهذه العقبات برغمها، مبدين مرونة وصمودًا يجدر بالاعتراف به.

البروفيسور خالد الحروب، الأستاذ في دراسات الشرق الأوسط في جامعة نورثويسترن، يُوضح أن الصراع على فلسطين منذ بدايته هو صراع استعماري معقد ومتعدد الأوجه، يشمل عناصر إمبريالية واستيطانية ودينية. ويظل هذه العوامل الثلاثة حاضرة بقوة في صلب هذا الصراع حتى الوقت الحالي.

بيارات البرتقال

الخالدي يشير إلى أن في بداية القرن العشرين، وقبل أن يحقق الاستعمار الصهيوني أي تأثير كبير في فلسطين، شهدت البلاد انتشار أفكار جديدة وتوسعًا في نطاق التعليم الحديث، وشهدت زيادة في معدل الأشخاص الذين يتعلمون القراءة والكتابة. وقد تغيرت مناظر مناطق واسعة في فلسطين، وأصبحت بساتين البرتقال تزدهر في جميع أنحاء البلاد.

والمؤلف يؤكد على أن مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية أصبحت “تحت سيطرة ملاك غائبين، معظمهم عاشوا في بيروت أو بدمشق، على حساب المزارعين وأصحاب الأراضي الصغار”.

يستنتج رشيد الخالدي أن العديد من الفلسطينيين الذين كانوا على اطلاع بالأمور أدركوا قبل الحرب العالمية الأولى (1914-1918) خطورة الحركة الصهيونية ورأوها تهديدًا، ولكن وعد بلفور (1917)، الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني جيمس أرثر بلفور (1848-1930)، أضاف عنصرًا مرعبًا عبر احتلال القوات البريطانية للقدس ومنح الطابع الرسمي للقوة الاستعمارية البريطانية.

البروفيسور خالد الحروب يشير إلى أن وطأة المشروع الاستعماري المشترك بين البريطانيين والصهاينة كانت أكبر بكثير مما يمكن للفلسطينيين تحمله حتى لو كان لديهم قيادات ميدانية أفضل في تلك الفترة.

وأضاف الحروب أن وعد بلفور في عام 1917 تحول فيما بعد إلى صيغة دولية تم تبنيها من قبل جامعة الأمم في عام 1922، وبناءً على هذه الصيغة، أصبح الدور الدولي للاستعمار البريطاني في فلسطين هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكانت كل القوى العظمى مؤيدة لهذا الانتداب ولدوره.

الدولة الموازية

أشار المؤرخ رشيد الخالدي إلى أن مشروع الصهاينة أصبح مدعومًا بشكل كبير ولا يمكن الاستغناء عنه “بجدار حديدي” من القوة العسكرية البريطانية. وقال إنه من المؤكد أن هويات سياسية تطورت في فلسطين قبل الحرب لتتناسب مع التغيرات العالمية وتطور الدولة العثمانية.

ثم توالت الهجرات اليهودية من مناطق مختلفة من العالم إلى فلسطين. وقد رصد الخالدي مخاطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقال: “بدأ المجتمع الفلسطيني المحلي في فقدان هياكله بسبب الهجرة الكبيرة للمستوطنين الأوروبيين، وهذه الهجرة كانت تدعمها السلطات الانتدابية البريطانية الجديدة التي ساعدت هؤلاء المستوطنين على إقامة هيكل دولة صهيوني متوازي.”

يؤكد المؤلف أن هذا الوضع أدى إلى ارتفاع نسبة السكان اليهود في فلسطين من 18٪ في عام 1932 إلى أكثر من 31٪ في عام 1939، مما أدى إلى تشكيل تلك الكتلة السكانية الحرجة. وقامت هذه الكتلة ببناء قوة عسكرية مدعومة من أوروبا والولايات المتحدة، وهذه القوة تم استخدامها في تنفيذ عمليات التطهير العرقي التي تعرض لها الفلسطينيون في عام 1948، حين تم طرد أكثر من نصف السكان العرب من البلاد، أولاً على يد العصابات الصهيونية، ثم بواسطة الجيش الإسرائيلي الذي أكمل نجاح الصهيونية على الصعيدين العسكري والسياسي.

وفي حديثه، يشدد البروفيسور خالد الحروب على أن الهجرات اليهودية الكبيرة ودعم بريطانيا لها بشكل كبير أثرت بالتأكيد في تحقيق تحولات ديموغرافية واقتصادية وعسكرية كبيرة في فلسطين، وهو ما سبق أن سهم في إشعال الصراع الذي أدى إلى نكبة الفلسطينيين. وأوضح أن عدد السكان الأصليين قلص أكثر بسبب قمع الثورة العربية الكبرى في فلسطين ضد الحكم البريطاني في الفترة من 1936 إلى 1939، حيث قُتل نحو 10٪ من الذكور العرب البالغين خلال هذه الفترة، وكانوا إما ضحايا للقتل أو الجرح أو الاعتقال أو النفي.

المعطف التوراتي

وضع المؤلف رشيد الخالدي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في سياق حرب استعمارية تستهدف السكان الأصليين من قبل مجموعة من الجهات المختلفة بهدف إجبارهم على تسليم أراضيهم لشعب آخر بالقوة وضد إرادتهم.

وأوضح الخالدي أن حركة الاستعمار الصهيونية من أواخر القرن التاسع عشر نجحت في تزيين نفسها بزي مستوحى من التوراة، وهذا الزي كان جذابًا للبروتستانت في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وأشار إلى أن هؤلاء البروتستانت أغمضوا عيونهم عن طبيعة الصهيونية الاستعمارية وكيف أن اليهود يستعمرون الأرض التي انطلق منها دينهم.

وبالنسبة للبروفيسور خالد الحروب، أوضح أن تيار المسيحية الصهيونية نشأ في قلب الحركة البروتستانتية البريطانية والأميركية ونشط في المنطقة الشرقية وفلسطين بالذات منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، ودعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين. وقد تطور هذا التيار على شكل منظمات كنسية ومبشرين ورحالة ودبلوماسيين في بدايات النصف الثاني من نفس القرن، أي قبل نصف قرن من نشوء الصهيونية تحت قيادة تيودور هرتزل.

وأشار إلى أن الصهيونية نشأت في بيئة دينية وسياسية مواتية لها. كانت الدعوة إلى عودة اليهود إلى فلسطين مدعومة بقوة في العواصم الأوروبية الكبرى مثل لندن وباريس وبرلين وموسكو. ولكن كانت لكل من هذه العواصم أجندات مختلفة لدعم هذه الدعوة، ولم يكن ذلك بالضرورة ناتجًا عن قناعة دينية.

التاريخ المزور

المؤلف يشير إلى أن الخطاب التحقيري الذي قدمه ثيودور هرتزل وزعماء آخرين في الصهيونية لم يختلف كثيرًا عن خطاب زملائهم الأوروبيين. في حديثه، هرتزل أشار إلى أن الدولة اليهودية ستكون جزءًا من جدار دفاعي لأوروبا في آسيا وقلعة أمامية تحمي الحضارة من البربرية. الكاتب يقوّل أن هذا الخطاب يُقارن بما حدث في فلسطين بأماكن أخرى في العالم، مثل استعمار أميركا الشمالية وجنوب أفريقيا وأستراليا والجزائر وأجزاء أخرى من شرق أفريقيا.

المؤلف يُظهر أيضًا أن “حرب المئة عام” لم تكن مقتصرة على الناحية العسكرية فقط، بل شملت أيضًا اجتثاث الفلسطينيين من أرضهم، ومحاولة مسح تاريخهم وإعادة كتابة تاريخ فلسطين بطريقة مزورة ومنقطعة عن أهلها الذين توارثوا هذه الأرض عبر الأجيال على مدى 4 آلاف عام. ويُضاف أن الجهود الصهيونية المدعومة من جهات أميركية نافذة تستهدف ليس فقط الوجود السياسي للفلسطينيين ولكن أيضًا هويتهم وثقافتهم.

إصدار كتاب رشيد الخالدي يشكل فرصة للمراجعة والمساءلة للواقع المعقد للقضية الفلسطينية، بعد مرور قرن من الحروب ضد الفلسطينيين التي انتهت بإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل وسحبها من طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين. المؤلف، الذي يعيش في الغرب، يسعى إلى وضع خطة للمضي قدمًا وسط التحديات الكبيرة المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي والتدخل الغربي لصالح إسرائيل.

زر الذهاب إلى الأعلى