رأي آخر

غياب مفهوم الدولة وأثره على الاستقرار والتنمية

يُعَد غياب “مفهوم الدولة” من أبرز التحديات التي تواجه الاستقرار وتعيق عجلة التطور، حيث إن هذا المفهوم يشمل الأسس الراسخة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، مثل مؤسسات وأدوات الحكم، منظومة القوانين، العدالة الاجتماعية، والشفافية في الإدارة. ولا تكمن المشكلة فقط في غياب المفهوم النظري لهذا البناء المؤسسي، بل في غياب التطبيق الفعلي له على الأرض، ما ينعكس على سلوكيات المواطنين والمؤسسات.

فالطبقة المتعلمة، التي حظيت بفرصة الدراسة في أبرز جامعات العالم، لم تقم بالدور المطلوب في ترسيخ هذا المفهوم. وعلى الرغم من اكتسابها معارف وخبرات واسعة، فإن هذه العلوم ظلت جامدة ولم تُترجم إلى حلول عملية تتناسب مع الواقع المحلي. بدلاً من ذلك، انشغلت هذه النخبة بمصالحها الخاصة، مبتعدة عن هموم الشعب الحقيقية، وساعية إلى محاكاة تجارب بعيدة عن ثقافتها وتاريخها، مما زاد الفجوة بينها وبين المجتمع.

أما الشعب، الذي مضى على استقلال بلده أكثر من ستة عقود، فما زال يعاني من تعليم قاصر ومسار تنموي متعثر، رغم وفرة الموارد الطبيعية الهائلة. فالمعادن والثروة السمكية والحيوانية والنفط والغاز لم تُستثمر بالشكل الأمثل لبناء بنية تحتية قوية وتحسين مستوى الخدمات العامة وبناء اقتصاد متنوع قادر على خلق فرص عمل مستدامة. ونتيجة لذلك، لا يزال الفقر والمرض والجهل والجوع واقعًا يوميًا لمعظم السكان، في ظل استمرار تهميش الطبقات الاجتماعية التي تعاني منذ عقود.

يعود هذا الجمود إلى أسباب عديدة، أبرزها تأخر نشوء الدولة المركزية من رحم “اللا دولة” عام 1960، حين أسسها المستعمر الفرنسي دون توفير عناصر “المنعة” اللازمة لبناء دولة قوية تحقق العدالة والتنمية. فالدولة لم تكن قادرة على فرض النظام بشكل عادل أو تنظيم العلاقة بين السلطة والمواطنين عبر دستور راسخ ومؤسسات قوية. ونتيجة لذلك، لم يتحقق نموذج للدولة العادلة التي تسعى لتحقيق نهضة تنموية حقيقية وتوزيع الثروات بشكل منصف. وبالتالي، لم يقتصر ضعف الدولة على المؤسسات السياسية فقط، بل تجاوز ذلك ليعكس أزمة في الهوية الوطنية وتراجعًا في بناء أسس التنشئة السياسية التي تعزز الولاء للوطن.

لحل هذه المعضلة، لا بد من إعادة بناء مفهوم الدولة على أسس سليمة، تبدأ بتصحيح العلاقة بين النخب السياسية والشعب، وبين هذه النخب والدولة، من خلال حوار وطني صريح، قائم على حب الوطن والحرص على وحدته واستقراره. كما يتطلب ذلك إصلاح التعليم، تطوير الخدمات الصحية، والاستغلال الأمثل للموارد الوطنية. إضافةً إلى ضرورة بناء بنى تحتية متطورة تلبي احتياجات المواطنين، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتمهد الطريق لنهضة حقيقية.

وهنا يبرز التساؤل: هل ستتمكن المشاريع السياسية والاجتماعية والتنموية، التي ستطرح في الحوار المرتقب، من تحقيق هذا التغيير المنشود؟

زر الذهاب إلى الأعلى