ثقافة

مثقفون سودانيون في القاهرة يسعون لمقاومة الحرب وتجاوز الإحباط

تأثرت حياة الشعب السوداني بشكل كبير جراء الحرب، حيث تجسدت معاناتهم من خلال الموت والفقدان والنزوح واللجوء إلى دول الجوار. وقد أحدثت هذه التجارب تغييرات جذرية في واقعهم.

وبحثاً عن أماكن آمنة، قرر بعض المثقفين مغادرة البلاد، وانتقلوا إلى خارجها، حيث كانت مصر هي وجهتهم الرئيسية. استقبلت مصر أعداداً كبيرة من الفنانين والأدباء والفاعلين الثقافيين السودانيين، إلى جانب من كانوا يقيمون فيها من قبل قبل اندلاع الحرب في الخرطوم، بالإضافة إلى تلك الشخصيات البارزة في المجال الثقافي التي قدمت لمساتها الكبيرة للتراث الثقافي السوداني.

التفاتات واعية

شغلت الوسائل الإعلامية المصرية اهتماماً كبيراً بما يجري في البلد الجنوبي الجار، حيث اجتذبت أحداث الحرب وتطوراتها الاهتمام الكبير، ولكن هذا الاهتمام لم يقتصر فقط على الأحداث السياسية والأمنية. بل امتد إلى مختلف جوانب الثقافة السودانية.

تنوعت وسائل الاهتمام بالثقافة السودانية في وسائل الإعلام المصرية، حيث تمتاز اللقاءات التلفزيونية والبرامج الإذاعية بتسليط الضوء على الجوانب المختلفة للثقافة السودانية. وأيضاً، تفرّغت وسائل الإعلام المكتوبة لهذه المواضيع، فقد نشرت جريدة “أخبار الأدب” ملفاً خاصاً بعنوان “سودانيون في مصر، ومصريون في السودان” في عدد منتصف مايو/أيار، وقد أُعدّ هذا الملف بعناية من قبل شعبان يوسف. واستمر التركيز على الثقافة السودانية في الإعلام المكتوب، حيث نشرت مجلة “الثقافة الجديدة” في عدد يونيو/حزيران ملفاً ممتداً عن السودان، تولى إعداده الشاعر والكاتب محمد المتيم. هذا الملف تضمن مقالات لكتّاب سودانيين ومصريين، وأظهر التزامهم بتناول قضايا الثقافة والأدب في ظل التحديات والأوضاع الصعبة التي يشهدها السودان.

قامت المجلة بشمول ملفها بمجموعة متنوعة ومتميزة من الشخصيات السودانية المهمة، بما في ذلك شعراء، وروائيين، ونقاد، وصحفيين، من الإناث والرجال، سواء كانوا داخل السودان أو خارجه. وهذا يهدف إلى تقديم صورة كاملة ودقيقة عن حال الأدب السوداني، وتاريخه، وشخصياته البارزة، وكيفية تفاعله مع الأدب المصري.

وظل الاهتمام بالثقافة والفنون السودانية مستمراً في وسائل الإعلام المصرية، حيث قامت مجلة “جمعية نقاد السينما المصريين” بتخصيص ملف خاص للسينما السودانية. قدّمت المجلة مقالات متنوعة حول مختلف جوانب السينما السودانية، وكتب رئيس التحرير مقاله الخاص عن هذا الموضوع. تناول مقاله دور الشباب السوداني في صناعة السينما، وختم مقاله بتعبيره عن امتنانه لهم ولبلدهم الذي يحمل أهمية خاصة بالنسبة للجميع.

ضغوط الواقع

السودانيون يواجهون ضغوطًا شديدة بسبب التطورات في بلادهم، وهذه الضغوط تؤثر بشكل خاص على الأشخاص ذوي الاهتمام بالثقافة. هؤلاء مطالبون بالتكيف مع الواقع الجديد بنفس الطريقة التي يجب أن يفعلها الجميع، ومع ذلك، هناك تضارب بين الذين يرون ضرورة العمل واستئناف الإنتاج الثقافي، وبين الذين يرون أن الظروف الحالية ليست مناسبة للانشغال بالفنون والآداب.

أحد الأدباء السودانيين الذين اضطرتهم الأوضاع إلى اللجوء إلى القاهرة، رفض المشاركة في أي نشاط ورفض حتى ذكر اسمه في التقرير، وذلك بسبب الجو الحزين والمكبوت الذي يشعر به، وبسبب عدم استعداده النفسي للمشاركة في أي نشاط.

بالمقابل، يتحدث عوض الله بشير، الموسيقي السوداني المعروف وعضو مؤسس في فرقة “عقد الجلاد”، عن التناقضات التي يشعر بها المثقفون والفنانون بعد اللجوء وترك البلاد. يعتبر بشير أن معظم هؤلاء هم من الأشخاص الحساسين والمتأثرين بشكل أكبر بالأوضاع الصعبة التي يمر بها السودان. على الرغم من ذلك، يشدد بشير على ضرورة مواصلة العمل الثقافي وعدم الاستسلام للإحباط.

هذا التناقض والتوتر تم التعبير عنه في الحراك الثقافي والجهود المتعددة التي يقوم بها بعض الفنانين والمبدعين السودانيين في القاهرة. هؤلاء تمكنوا من تحفيز زملائهم وتحفيزهم للمشاركة الفعالة وإخراجهم من دائرة الإحباط. بشير يوضح أنهم تجاوزوا اليأس وبدأوا في تنفيذ مشاريع وأنشطة فنية وثقافية لمواجهة التحديات.

النهوض مرة أخرى

علي الزين يُمثِّل نموذجًا لمقاومة آثار الحرب والتحديات التي ترتبت عليها، بمقارنته مع الذين انهزموا أمام الإحباط والضغوط النفسية. الموسيقي السوداني قام بتأسيس مركز ثقافي في السودان عام 1997 بهدف تعليم الموسيقى والفنون الإبداعية الأخرى.

بدأ المركز بشكل متواضع بدون أية لافتة تدل عليه أو تعكس وجوده، واستمر في هذه الحالة حتى تم تسجيله رسميًا في عام 2010. تعرض المركز لإغلاق متكرر على يد الأجهزة الأمنية، واستمر في الإغلاق لسنوات، لكنه تم إعادة افتتاحه في عام 2015. ثم تأثر بالحرب السائدة في السودان وفقد جزءًا من ممتلكاته.

عندما تم سؤال علي الزين عن حالة مركزه في الخرطوم بحري وما فقده بسبب الحرب، أفاد بأنه فقد جميع المؤلفات الورقية والسمعية الموجودة في المركز، بالإضافة إلى مناهج تدريس جميع أنواع الآلات الموسيقية وأدواتها المتنوعة. ولم يتوقف هذا الفقدان عند الآلات بحد ذاتها، بل شمل أيضًا مجهزات المركز بشكل عام. لكن رغم كل هذه التحديات والخسائر، لم يُهزم علي الزين. فقد أعاد افتتاح مركزه في القاهرة بمصر، حيث انتقل إليه للهروب من آثار الحرب. يُعلم الشباب السودانيين والمصريين أساسيات الموسيقى والرسم وفنون المسرح، معبرًا عن روح المقاومة التي ساعدته على التغلب على تأثيرات الفقد والضغوط.

في حديثه مع الجزيرة نت، يقول الزين: “يرون المبدعون وأهل الثقافة النصف الممتلئ من الكوب، وهناك جانب إيجابي لابد من النظر إليه.”

ويضيف قائلاً: “الأشياء لا تحدث عبثًا، بل تحدث وفقًا لتصميم معين، والإيمان بالله وبقضائه وقدره، والتعامل مع الأمور بواقعية، يُمكنهم من التحلي بالثقة والمسؤولية في مواجهة تلك الأمور. لذا يجب أن تستمر الرحلة والمسيرة.”

عملية إعادة افتتاح مركز علي الزين وبداية التسجيل للدورات المتخصصة أصبحت نموذجًا إيجابيًا يحفز أهل الفن والثقافة في السودان. هذا النموذج يشجعهم على الإنتاج الثقافي ويعتبرهم قوة قادرة على مقاومة آثار الحرب من خلال الأدوات الفنية والثقافية التي يمتلكونها.

زر الذهاب إلى الأعلى