ثقافة

هل تمثل الأدب الروائي الصادر خلال حرب أكتوبر واقع تلك الفترة بدقة؟

هل كانت الرواية الأدبية وفية لحرب أكتوبر؟

قال الخبراء وعلماء البحر: إن الرياح عتية والإبحار مستحيل، ولكن هذا الرفاعي لم يتردد لحظة في حياته. هممته لم تتخلى عنه أبداً. كانوا يعلمون أن يوماً ما سيأتي، سيظهر أمام الجميع، وستكون لهم فرصة لرؤيته والعمل معه، سيظهر في كل الاتجاهات، وسيكون مصدر إلهام للجميع. وعندما يحين ذلك اليوم، سيتوجهون نحوه. سيكون هناك من سيحنو عليه ويضمه، وآخر سيظلله ببردائه الحربية، وآخر سينظر إلى وجهه بصمت، وآخر سيفديه في حال الهجوم، وسيكون آخر يستأذنه قبل الاقتحام، وسيكون آخر يلتصق بجانبه بعد الجرح. وسيكون هناك من يقول: “لقد ابتعدت عنا لفترة طويلة، ولكننا لم ننسى بعدك”. وفي تلك اللحظة، سيجيب أبو الفضل بكلمات مؤثرة قائلاً: “كانت مكانتك في حياتي مستديمة، وقبرك في قلبي أبدي”.

هكذا وصف الروائي المصري جمال الغيطاني أحد أبطال حرب أكتوبر 1973 وأحد قادتها وشهدائها في روايته “الرفاعي”. في هذه الحرب، اجتمعت القوة والشجاعة والإصرار مع إبداع الأدب لتشكل صورة مميزة للجندي والكاتب في نفس اللحظة، حيث أصبح الأدب جزءًا من القتال، وكان له دور في توثيق وتخليد تلك الفترة التاريخية.

ماذا عن الأدب وتفاصيل الحرب؟

لنتفق أولاً على أن الأدب، على الرغم من أنه يعكس الواقع، إلا أنه لا يصوّره بشكل تفصيلي وحرفي. يختلف الأدب في هذا النقطة عن التأريخ التفصيلي الذي ينقل الأحداث بدقة ويصورها بشكل حرفي. إن الأدب هو نتاج إنساني خلاق، وبما أنه كذلك، فإنه يتأثر بنفسية كاتبه ومزاجه وأفكاره وتجاربه ونظرته للأمور وتطلعاته. الأدب ليس موضوعياً بشكل مطلق، بل هو كأنه مرآة تعكس الوقائع والأحداث وتظهرها بزوايا مختلفة.

حرب أكتوبر كانت نصرًا نفسيًا للإنسان العربي والمقاتل العربي على نفسه وعلى الأساطير التي بناها حول الجيش الصهيوني. ولهذا السبب، يمكن أن يكون للأدب دور مهم في توثيق وفهم هذا النصر. وعلى الرغم من وجود العديد من الأعمال الأدبية التي كتبت حول حرب أكتوبر، إلا أن هناك تباين في الآراء حول مدى وفاء الأدب بحق هذا الانتصار وقدرته على توجيه رسالة قوية تضاهي الأعمال الأدبية العالمية التي تتناول الحروب العالمية الكبرى. قد يرى بعض الروائيين والنقاد أن الأدب العربي لم يمنح حرب أكتوبر حقها الكامل. وهناك من يعزو ذلك إلى الخيبة التي ألمت بالشعوب بعد الحرب وتراجع السياسة مباشرة بعد النصر العسكري، مما أثر سلبًا على الإبداع الفني والأدبي.

يمكن أن يكون للأدب دور هام في إعادة التفكير في أحداث حرب أكتوبر وتفاصيلها وتأثيرها على الشعوب العربية، ويمكن أن يساهم في إظهار جوانب جديدة ومختلفة من هذا الحدث التاريخي الهام.

ما أهمية المعاصرة في الروايات التي جسدت حرب أكتوبر؟

بعض المفكرين والأدباء يرون أن الكتابة عن الحروب وتداعياتها ينبغي أن تحدث في وقت وقوعها، حيث تكون الوقائع حية والذاكرة حديثة وقادرة على التقاط التفاصيل التي قد تفقد بفعل مرور الزمن. ولكن هذا يتطلب ضرورة أن يكون الكاتب مشاركاً فعلياً في الأحداث أو على الأقل أن يكون قريبًا من الأشخاص الذين كانوا في قلب الأحداث.

فكرة الجندي الأديب أو الشاعر تبدو مثيرة بالفعل. ماذا لو استطاع العسكري نفسه أن يشاركنا تجاربه ومشاعره خلال الحروب؟ ماذا لو تمكن من نقل لنا تلك اللحظات المشحونة بالمشاعر والتوتر والأمل واليأس والموت الذي يكون دائمًا حاضرًا؟ مثلما فعل الروائي والضابط في الجيش المصري السابق علاء مصطفى في روايته “دوي الصمت”، حيث قدم تصويرًا حيًا لأحداث منذ نكبة 1967 حتى حرب أكتوبر 1973.

تمكن مصطفى من تجميع بين التفاصيل الفنية للمعارك العسكرية وبين الجانب الأدبي الذي ينقل المشاعر والأحاسيس والروح الإنسانية خلال هذه الأحداث. وهكذا، يمكن للأدب أن يسهم في فهم أعمق للحروب وتأثيرها على البشر والمجتمعات.

بالطبع، الأدب ليس فقط أداة لتصوير الأحداث بشكل فوتوغرافي. إنه يمكن أن ينقل الخفايا والأحاسيس والمشاعر التي تعيشها الأرواح خلف الستار، خاصةً في سياق الحروب والصراعات. ويمكن أن يكون للأدب دور هام في تجسيد تلك التجارب الإنسانية المعقدة وإبراز جوانب جديدة ومختلفة منها.

روايات على الجبهة السورية

قد يكون انفعال الكتّاب والأدباء تجاه الحرب ومفاجآتها، ودهشتهم من تطور الأحداث، هو ما دفعهم إلى كتابة المقالات حولها أكثر من كتابة أعمال أدبية طويلة. ومع ذلك، هذا لا يمنع وجود عدد من الروايات الاستثنائية من قبل كتّاب كبار ألهموا حرب أكتوبر بأدب راقٍ وعميق.

الروائي حنا مينة كتب رواية رائعة تحت عنوان “المرصد”، تتجاوز 300 صفحة، تدور أحداثها حول موقع استراتيجي يُدعى “المرصد”، وهو موقع قوي جداً يطل على جبل الشيخ ويكاد يكون من الصعب الوصول إليه أو اقتحامه. ومع ذلك، نجح جنود المشاة السوريين في تحقيق هذا المستحيل ورفعوا العلم السوري فوقه. عند استكشافهم المرصد، اكتشفوا أجهزة تقنية متقدمة، ولكن المفاجأة كانت وجود جنود إسرائيليين مُرتابي الثقة بأنفسهم. اختبؤوا وعانوا من الرعب على الرغم من تسليحهم.

وعلى الحدود السورية أيضاً، كتب الروائي المغربي مبارك ربيع رواية “رفقة السلاح والقمر” التي صدرت في عام 1976 وفازت بالجائزة الأولى من المجمع اللغوي في القاهرة عام 1975. تُعد هذه الرواية واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي تتناول حرب أكتوبر وتسليط الضوء على العلاقة الوثيقة بين الدول العربية المشاركة في الحرب. وقد ركزت الرواية على دور الجنود المغاربة وبطولاتهم على جبهة القتال السورية.

بالنسبة لكتاب “سنوات الحب والحرب” للكاتبة السورية كوليت خوري، فإنه يشكل مجموعة من القصص القصيرة والمقالات الأدبية التي تركز على بطولات حرب أكتوبر وأحداث سابقة منها مثل اغتيال الشاعر والقائد الفلسطيني كمال ناصر، بالإضافة إلى القادة الفلسطينيين البارزين كمال عدوان وأبو يوسف النجار.

روايات على الجبهة المصرية

الروائيون المصريون أيضًا أبدعوا في تسطير بطولات حرب أكتوبر، وبالتحديد على الجبهة المصرية. من بين هذه الأعمال، تألقت رواية “الرفاعي” للكاتب جمال الغيطاني كواحدة من أهمها. يُعتبر جمال الغيطاني من أشهر الروائيين المصريين وله خلفية كصحفي حربي في الفترة من 1969 إلى 1973، حيث عاين الهزيمة والأحداث التي تلتها وكان حاضرًا خلال حرب أكتوبر التي أعادت روح الانتصار إلى المصريين.

رواية “الرفاعي” كتبها الغيطاني في عام 1976 وصدرت في عام 1978. تركز الرواية على شخصية العميد إبراهيم الرفاعي، الذي يُعتبر أمير شهداء أكتوبر. يصف الغيطاني الرفاعي بأنه شخصية مهمة في التاريخ المصري والعربي. كما أنه لم يكتفِ بكتابة “الرفاعي” وحدها، بل أضاف إلى ذلك مجموعة قصصية تحمل اسم “حكايات الغريب”، والتي ركزت بشكل كبير على روح أكتوبر وحصار السويس. تُظهر هذه القصص الشجاعة والإصرار الذي أبداه المصريون خلال هذه الفترة الصعبة.

رواية “الرصاصة لا تزال في جيبي” للكاتب إحسان عبد القدوس هي أيضًا واحدة من أوائل الروايات التي تناولت حرب أكتوبر. صدرت هذه الرواية عام 1974، وتدور أحداثها حول شخصية تُدعى “محمد” الذي حمل رصاصة في جيبه منذ نكسة يونيو 1967. يتوق محمد لاستخدام هذه الرصاصة في مواجهة إسرائيل، وقد تحقق حلمه في نهاية المطاف عند مشاركته في حرب أكتوبر وعبوره لقناة السويس. تم تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي في عام 1974.

على الرغم من وجود العديد من الروايات التي تناولت حرب أكتوبر وقدمت صورًا مختلفة عن تلك الفترة الحاسمة في تاريخ العرب، إلا أن هناك جزءًا من النقاد يعتقدون أن الأدب العربي لم يقدم ما يكفي من الاهتمام والتتبع لهذا الحدث الكبير. يمكن تفسير ذلك بشعور الناس باللهفة للنجاح والتحقيقات الكبيرة في زمن تتابعت فيه الهزائم، ورغبتهم في أن يتم توثيق انتصار الإنسان العربي على خوفه بشكل أفضل وأشمل في الأدب.

إن حرب أكتوبر كانت لحظة فارقة في تاريخ العرب، وقد شهدت معاناة وتضحيات كبيرة من قبل الجنود والمدنيين على حد سواء. لذلك، من الممكن أن يكون هناك حاجة إلى المزيد من الأعمال الأدبية التي تستكشف هذا الحدث بعمق وتعرض تأثيراته على النفس البشرية والمجتمع العربي.

تظل الأدب والرواية وسيلة مهمة لتسجيل التاريخ والتعبير عن التجارب الإنسانية، وربما في المستقبل سيظهر المزيد من الروايات التي تسلط الضوء على حرب أكتوبر وتواصل استكشاف ماضيها وتأثيراتها في عالم الأدب العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى