ثقافة

كافكا الآخر في مئويته: كيف تشكلت سمعته من معطف الحرب الباردة؟

تشكلت سمعة الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1833- 1924) قبل مائة عام من وفاته، ولكن انتشار شهرته على الصعيد العالمي جاء في فترة الحرب الباردة، مصحوبًا بتحليلات وتأويلات متعددة تعززت بالسياقات السياسية الصعبة التي كانت تعيشها الأنظمة الشمولية. لقد أسهمت هذه الظروف في إضفاء بعد خاص على أعماله، مرتبطة بتجارب سياسية مأساوية.

تجسد كتابات كافكا، مثل “المحاكمة”، عوالم سردية فريدة، حيث لا يُلزم القارئ بفهم الحقائق أو التبريرات. ومع ذلك، كانت هناك عوامل متعددة أسهمت في بروزه كشخصية مؤثرة في الأدب العالمي، وكان ذلك مرتبطًا بتحولات سياسية وثقافية.

بدأت شهرة كافكا في الولايات المتحدة خلال خمسينيات القرن الماضي، حيث نال اعترافًا واسعًا في الأوساط الثقافية والنقدية الأمريكية. وجاء ذلك في فترة تصاعدت فيها التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، مما جعل كتاباته تكتسب أهمية كبيرة في توجيه المفكرين والكتّاب الأمريكيين.

إضافة إلى ذلك، تأثرت شهرة كافكا بالظروف السياسية والاجتماعية في أوروبا بين الحربين العالميتين، حيث برزت كتاباته كرمز للمعارضة للأنظمة السياسية القائمة. وقد ساهم هذا التصوّر النقدي له في جعله شخصية محورية في الأدب العالمي.

تعبّر كتابات كافكا عن تجارب شخصيات مسلوبة الإرادة، وتكشف عن قوى غامضة وغير مرئية تحكم مصائرهم. وتستخدم رموزًا متعددة، مثل البيروقراطية والروتين، لتعزز من قوة التعبير عن المأساة الإنسانية.

بالنظر إلى الخلفية الواسعة لظاهرة كافكا، نجد تداخلًا مع المتغيرات السياسية والاجتماعية في أوروبا، بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر. وقد أسهمت هذه المتغيرات في تشكيل سمعة كافكا ككاتب معارض للأنظمة السائدة، مما جعله شخصية مؤثرة في الأدب العالمي.

رحلة بلوم خلال يوم واحد تشكل متاهة تعيد إحياء تشابكات أجداده، مع ثباتها داخل حدود دبلن، العاصمة الإيرلندية، حيث لا تصل إلى مقصدها المُقرر. يعتمد جيمس جويس على هذا السياق ليرسم صورة لـ”أرض يباب ميتة”، تلد الأوائل فقط، الذين يتجولون بلا هدف من جيل إلى آخر.

هكذا، يتلازم خطاب جويس مع مفهوم “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” الذي تشتهر به المزاعم الصهيونية، التي تدعو لحق اليهود في فلسطين. ويظل هذا الخطاب سائدا في سياسات التجاهل التي تتبعها السياسات الغربية تجاه الفلسطينيين، الذين يظلون غير مرئيين.

يظهر جويس في روايته “أوليس” تفاعلًا مع الأوضاع السياسية دون أن يستجيب مباشرة لها. يُعتقد أنه ردّ على تداعيات الشعور بالاغتراب العميق الذي يشعر به بطله، الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ويتجاوز الزمان.

رواية “أوليس”، بجانب رواية مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود”، تكشف عن تحولات اجتماعية كبيرة في أوروبا. ومثل بروست، يصوّر جويس شخصية سوان اليهودي بشكل نبيل، دون أن يُشارك في الساحة السياسية.

بالمقارنة الواسعة، أصبحت كتابات بروست وجويس وكافكا، الثالوث الأدبي الرائد في القرن العشرين. وعلى الرغم من اختلاف ظروف كل منهم، فإن كل واحد منهم ساهم بأسلوبه الخاص في الأدب.

في حين كانت سمعة بروست وجويس تأصلت في أوروبا، كانت سمعة كافكا تتطور في الولايات المتحدة في الأربعينيات. وفي هذه الفترة، كانت الولايات المتحدة تتصدر الساحة العالمية بقوتها العسكرية والاقتصادية، وكانت قادرة على نقل ثقافتها وأفكارها بشكل شامل، ومن خلال ذلك، تم اكتشاف كافكا واستقباله بحفاوة في أوروبا والعالم.

لكن هذه الرحلة المشرقة شهدت عدة تحولات. بدأت مع تفسيرات ماكس برود، الذي كان وريثًا لتراث كافكا الأدبي، ولكنه لم يقتصر على توجيه العمل الأدبي فحسب، بل حاول أيضًا تركيبه ضمن سياق ديني صرف، بمعنى الخلاص، وحاول جعل كافكا جزءًا من الحركة الصهيونية.

في المقابل، عبّر كافكا في رسالة إلى حبيبته فيليس عن عدم رضاه عن الصهيونية والأفكار المرتبطة بها. بالتالي، فإن كتاباته لم تتماشى تمامًا مع أهداف الحركة الصهيونية، بل تركزت أكثر على تحليل الحالة الإنسانية والعوز والاستبعاد التي يعانيها الإنسان.

العالم أديموند ويلسون أثنى على مصداقية “خيالات كافكا الغريبة” في أوروبا، حيث وجد الناس أنفسهم “معتقلين ومتهمين بجرائم ليس لها صلة بأي أخلاق أو قوانين”. يمكن رؤية هذه الصورة في رواية “المحاكمة” ومصير جوزيف ك. وبالتالي، أصبحت المحاكم الزائفة في السجون السوفيتية تُوصف بـ”عوالم كافكاوية”.

زر الذهاب إلى الأعلى