سقوط غرناطة واحتلال الجزائر: تطورات استعمارية وصراعات تاريخية
عندما سقطت غرناطة، آخر معاقل الإسلام في الأندلس، بيد الإسبان عام 1492م، اضطر المسلمون إلى مغادرة الأندلس هاربين من القهر الإسباني. استقر عدد كبير منهم في بلدان شمال أفريقيا، ومنذ ذلك الحين، بدأ الإسبان في التفكير في احتلال هذه البلدان، خاصةً في المنطقة المغاربية، لمنع عودة المسلمين إلى أراضيهم الأصلية ونهب خيراتها والسيطرة عليها. وقد شجعتهم على ذلك ضعف البلدان المغاربية وتشرذمها في ذلك الوقت.
بدأت الغزوات الإسبانية على السواحل الجزائرية، حيث استولوا على عدة مدن مثل المرسى الكبير عام 1505م، ووهران عام 1509م، وبجاية عام 1510م. كما احتلوا صخرة البنيون في بوابة ميناء مدينة الجزائر العاصمة. ومع تزايد التهديد، رأى أهل الحل والعقد في المدينة أن المقاومة لم تُجدِ نفعًا، فقرروا إرسال وفد إلى مدريد للتفاوض مع ملكها. وافقوا على دفع ضريبة سنوية للقائد الإسباني في بجاية مقابل عدم التعرض لمدينة الجزائر.
لكن الإسبان كانوا ينوون شراء الوقت فقط، وبدأوا في تحضير هجومهم المباغت. في تلك الأثناء، برز في غرب البحر المتوسط القائدان الكبيران خير الدين بربروس وأخوه عروج، اللذان كان لهما دور بارز في إنقاذ مسلمي الأندلس، وجهادهما المستميت لتحرير شمال أفريقيا من الاحتلال الإسباني.
أدرك الأخوان بربروس أهمية دعم دولة إسلامية قوية، وكانت هذه الدولة هي الدولة العثمانية، التي كانت قد بدأت للتو في السيطرة على الأقطار العربية مثل مصر وبلاد الشام، ولها أسطول قوي في البحر المتوسط. كما كانت على دراية بالتطورات المتعلقة بالقضية الأندلسية، حيث استقر عدد كبير من المهاجرين الأندلسيين في إسطنبول بعد سقوط الأندلس.
عرفت الدولة العثمانية خطورة الإسبان والطليان على هيمنتها التجارية والاقتصادية في البحر المتوسط، ورأت في التحالف مع الأخوين بربروس وتلبية استغاثة أهل الجزائر بالسلطان سليمان القانوني واجبًا دينيًّا. أثمر هذا التحالف في طرد الإسبان من مدن الجزائر وتونس وليبيا خلال القرن السادس عشر الميلادي، ودخلت الجزائر بعدها تحت الحكم العثماني.
رغم دخول الجزائر تحت الحكم العثماني، ظلت قاعدة عسكرية وبحرية متقدمة في غرب البحر المتوسط، تمد الأندلسيين بالسلاح والعتاد، وتساعد الضعيف منهم في الهروب إلى الضفة الجنوبية من المتوسط. مرّت الجزائر طوال ثلاثمئة عام تحت الحكم العثماني بعدة تغييرات إدارية وسياسية بين قوة وضعف، وصولًا إلى عصر الدايات، الذين تمتعوا بقدر كبير من الاستقلال عن الباب العالي.
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت الجزائر العديد من محاولات الاحتلال الفاشلة، خاصة من البريطانيين والفرنسيين والإسبان والهولنديين والدنماركيين، ولكن أخطرها كانت تلك التي قام بها الفرنسيون واحتلوا إثرها الجزائر.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت الجزائر تعاني من اضطرابات سياسية واقتصادية، كما يوضح المؤرخ الجزائري أرزقي شويتام في كتابه “نهاية الحكم العثماني في الجزائر وعوامل انهياره”، حيث تولى الحكم ثمانية دايات تم اغتيال ستة منهم.
كانت فرنسا تطمح منذ زمن طويل إلى احتلال الجزائر، بدءًا من لويس التاسع إلى نابليون بونابرت، الذي كان يهدف إلى القضاء على الوجود الإنجليزي في البحر المتوسط. على الرغم من محاولاته، لم ينجح نابليون في تحقيق هدفه بسبب مشاكله التوسعية. لكن فرنسا لم تيأس واستمرت في مخططاتها، التي تنوعت من إرسال محطات تجارية على سواحل أفريقيا إلى المحاولات العسكرية المباشرة.
بعد سلسلة من الفشل والاضطرابات الداخلية، قررت فرنسا في 30 يناير 1830م غزو الجزائر بنفسها. كان الداي حسين باشا، الذي كان يحكم الجزائر منذ عام 1818م، قد أعرب عن استياءه من التصرفات الفرنسية، لكن فرنسا استخدمت حادثة صفع سفيرها كذريعة لفرض حصار بحري على الجزائر.
في الوقت نفسه، سعت فرنسا إلى استخدام محمد علي باشا، والي مصر، كوسيلة لتحقيق أهدافها في شمال أفريقيا. لكن المفاوضات بين فرنسا ومحمد علي لم تثمر، وقررت فرنسا في النهاية تنفيذ خطتها لاحتلال الجزائر بنفسها. في 5 يوليو 1830، نجح الفرنسيون في احتلال الجزائر وأبرموا اتفاقية تسليم مع الداي حسين، الذي التزم بجميع بنودها، إلا أن الفرنسيين لم يلتزموا بشيء منها.
احتلال الجزائر أدى إلى تنفيذ خطة محو خصائصها الحضارية من دين ولغة ومعالم تاريخية. على الرغم من هذه الأعمال الوحشية، التي اعتبرها الإمام محمد البشير الإبراهيمي “حلقةً من الصليبية الأولى”، فإن المقاومة الجزائرية بدأت تظهر، وشهدت البلاد على مدار 130 عامًا معركةً ضارية ضد الاستعمار الفرنسي، حتى تمكنت في النهاية من نيل استقلالها وحريتها.