بلاك بيري.. من القمة إلى النسيان: قصة صعود وسقوط عملاق الهواتف الذكية
أصبحت تطبيقات المراسلة الفورية، مثل “واتساب” و”تليغرام”، جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، لكن قبل نحو 15 عامًا، كانت هذه التقنية ثورية وغير مألوفة، بل وكانت حكرًا على شركة واحدة فقط: بلاك بيري.
بفضل هذه التقنية وحدها، تمكنت “بلاك بيري” من تحقيق إيرادات بلغت ذروتها عند 19 مليار دولار، مما جعلها تتربع على عرش التكنولوجيا، متصدرة المشهد أمام العملاق الفنلندي “نوكيا”، في حقبة ما قبل ظهور “آيفون” و”أندرويد”. لكن لم يقتصر نجاحها على الأرقام فقط، بل أصبحت هواتفها رمزًا للوجاهة والتميز، يسعى الجميع لاقتنائها. ومع ذلك، اختفت الشركة تمامًا، ومعها ابتكاراتها الرائدة. فما الذي حدث لـ”بلاك بيري” حتى تسقط في طيّ النسيان؟
البدايات: من البرمجيات إلى ريادة الاتصالات
تأسست “بلاك بيري” في كندا عام 1984 على يد مايك لازاريديس ودوغ فريجين، وبدأت كمزود لخدمات استشارية في قطاع البرمجيات والاتصالات اللاسلكية. وسرعان ما تحولت إلى تطوير أنظمة نقل البيانات اللاسلكية للأجهزة المحمولة.
وفي عام 1999، أطلقت الشركة أول جهاز بيجر قادر على إرسال البريد الإلكتروني، يحمل اسم RIM Inter@ctive Pager 900، وكان مزودًا بلوحة مفاتيح كاملة. ثم في عام 2002، دخلت سوق الهواتف الذكية بإطلاق أول هاتف يجمع بين ميزات البيجر والهاتف المحمول.
لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع هاتف بلاك بيري 957، الذي تميز بلوحة مفاتيح “كويرتي” كاملة، مما سهّل عملية الكتابة مقارنة بلوحات المفاتيح التقليدية المرتبطة بالأرقام (T9). هذا الابتكار، إلى جانب تقنية الاتصال اللاسلكي، جعل “بلاك بيري” الخيار الأول لرجال الأعمال وكبار المسؤولين والمشاهير، واستمر نجاحها حتى عام 2016، عندما توقفت عن إنتاج الهواتف الذكية.
عصر الازدهار والهيمنة على السوق
بفضل تركيزها على قطاع الأعمال، اكتسبت “بلاك بيري” شهرة واسعة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث كانت هواتفها الوحيدة القادرة على إرسال واستقبال الرسائل في الولايات المتحدة، بعد انهيار شبكات الاتصال التقليدية.
كما قدمت الشركة حلولًا مبتكرة للبريد الإلكتروني، وربطت أجهزتها بخدمات مثل “ياهو” و”MSN”، إلى جانب تطوير تطبيق المراسلة الفورية الشهير “بلاك بيري ماسنجر” (BBM)، الذي أصبح لاحقًا النموذج الأولي لتطبيقات المراسلة الحديثة مثل “واتساب”.
بفضل هذه الابتكارات، حققت “بلاك بيري” نجاحًا ماليًا استثنائيًا، حيث بلغت أرباحها 595 مليون دولار في 2004، وقفزت إلى 19 مليار دولار بحلول 2011، مما جعلها تسيطر على 37% من سوق الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة.
السقوط المدوي: صراع لم يُحسم مع “آيفون” و”أندرويد”
كان عام 2008 نقطة تحول مصيرية، حيث بلغت قيمة سهم “بلاك بيري” 147 دولارًا، لكن في العام نفسه، أعلن ستيف جوبز عن أول هاتف “آيفون”، الذي اعتمد بالكامل على شاشة اللمس، في خطوة قللت من أهمية لوحات المفاتيح التقليدية.
قللت “بلاك بيري” من شأن المنافسة، واعتقدت أن رجال الأعمال سيظلون متمسكين بأجهزتها، لكنها أخطأت التقدير. حاولت لاحقًا مجاراة السوق بإطلاق هواتف تعمل بشاشة لمس، لكنها لم تحقق النجاح المطلوب. وفي عام 2012، انخفضت حصتها في السوق الأمريكية إلى 7.3%، مقارنة بـ 53% لآيفون و35% لأندرويد.
محاولات أخيرة لم تنقذ الشركة
مع تراجع المبيعات، لجأت “بلاك بيري” إلى عدة محاولات لإنعاش وجودها، من بينها إطلاق أجهزة هجينة تجمع بين لوحة المفاتيح والشاشة باللمس، وإصدار حاسوب لوحي، بل وحتى فتح تطبيق BBM أمام مستخدمي “آيفون” و”أندرويد”. لكن كل هذه الخطوات جاءت متأخرة، حيث كان السوق قد انتقل بالفعل إلى تطبيقات مثل “واتساب” و”فايبر”.
بحلول عام 2018، تراجعت قيمة سهم “بلاك بيري” إلى 12.66 دولارًا فقط، ما عكس انهيارها التام في سوق الهواتف الذكية.
بلاك بيري اليوم: وداعًا لعالم الهواتف
رغم خروجها من سباق الهواتف الذكية، لا تزال “بلاك بيري” موجودة كشركة، لكنها تحولت إلى قطاع البرمجيات وأمن المعلومات، مركزة على حلول الأمن السيبراني وإنترنت الأشياء. ومع ذلك، تظل قصتها نموذجًا كلاسيكيًا عن شركة تكنولوجية لم تدرك سريعًا تحولات السوق، ففقدت مجدها أمام موجة الابتكار الجديدة.
هكذا أسدل الستار على واحدة من أعظم قصص النجاح في عالم التقنية.. من شركة غيرت مفهوم الهواتف الذكية، إلى اسم منسي في عالم التكنولوجيا.