رأي آخر

إصلاح تسيير صندوق دعم الصحافة في موريتانيا: خطوة جبارة نحو الشفافية والمهنية

شهد قطاع الصحافة في موريتانيا تطورًا لافتًا في عام 2024، مع تعيين السيدة حواء بنت ميلود على رأس صندوق الدعم العمومي لوسائل الاتصال، وهو الصندوق المسؤول عن توزيع الموارد المالية لدعم المؤسسات الإعلامية.

وقد جاء هذا التعيين في سياق إصلاحات تهدف إلى تكريس الشفافية، المهنية، والعدالة في توزيع الدعم، بعد أن كانت معايير التقييم في الفترات السابقة محل انتقادات واسعة بسبب ضبابيتها وتأثرها بالمحسوبية والاعتبارات غير المهنية.

تحولات إدارية وإصلاحات جوهرية

مرت إدارة الصندوق في فترة من الاضطراب الإداري عقب نقل موارده إلى وزارة الثقافة خلال عهد الوزير السابق، وهي خطوة أثارت جدلًا واسعًا، حيث اعتبرها البعض محاولة للتأثير على مسار الصندوق واستعماله كأداة ضغط على الصحفيين الذين لم يحظوا بعلاقة جيدة مع الوزير آنذاك.

غير أن تعيين الوزير الحالي، الحسين ولد أمدو، أدى إلى إعادة النظر في هذه الوضعية، وتم تصحيح المسار عبر إرجاع الصندوق إلى سلطة الهابا، وهي خطوة عززت الثقة في نزاهة إدارة الدعم الصحفي.

وقد جاءت رئاسة حواء بنت ميلود للصندوق كإشارة واضحة إلى رغبة السلطات في تعزيز الإصلاحات وضمان الشفافية، خاصة أن إدارات الصندوق السابقة كانت عاجزة عن إرساء آليات تقييمية واضحة.

معايير جديدة: نقلة نوعية في تقييم المؤسسات الإعلامية

لأول مرة منذ إنشاء صندوق دعم الصحافة، تم وضع معايير تقييم واضحة وموضوعية لتوزيع الدعم، حيث تم اعتماد أسس مهنية صارمة تستند إلى جودة الإنتاج الصحفي، مدى التزام المؤسسات الإعلامية بأخلاقيات المهنة، بالإضافة إلى الجوانب الفنية والشكلية التي تعكس احترافية العمل الإعلامي.

وقد شكلت هذه النقلة النوعية ردعًا للممارسات السابقة التي كانت تعتمد على المحسوبية والعلاقات الشخصية في توزيع الموارد، حيث أصبح التقييم قائمًا على الأداء الفعلي للمؤسسات الإعلامية وليس على شبكة العلاقات أو التأثيرات الجهوية.

إعادة الاعتبار لدور الإعلاميين في تطوير مؤسساتهم

في سياق هذه الإصلاحات، أصبح لزامًا على الإعلاميين أنفسهم إعادة تقييم دورهم وأدائهم المهني، حيث لا يمكن مطالبة لجنة الصندوق بمنح تقييمات مرتفعة لمؤسسات إعلامية لا تبذل جهدًا في تقديم محتوى احترافي، وتعتمد على أساليب سطحية كإعادة نشر الأخبار دون إضافة قيمة تحريرية حقيقية.

وبالتالي، فإن تحسين الأداء الصحفي بات مسؤولية مشتركة بين القائمين على تسيير الصندوق من جهة، والمؤسسات الإعلامية نفسها من جهة أخرى، حيث إن جودة المنتج الصحفي ومدى احترامه للمعايير المهنية هو العامل الأساسي في تحديد موقع أي وسيلة إعلامية في خارطة الدعم.

نحو تعزيز الحوكمة الإعلامية في موريتانيا

إن الخطوة التي قادتها السيدة حواء بنت ميلود برفقة لجنة التقييم تمثل تحولًا جوهريًا في إدارة صندوق دعم الصحافة، إذ أنها وضعت أسسًا جديدة تعزز من الشفافية والموضوعية في التعاطي مع المؤسسات الإعلامية. هذه الإصلاحات ليست مجرد تصحيح لوضع إداري، بل لبنة أساسية في مسار تطوير الحقل الصحفي الموريتاني بما يواكب التحولات العالمية في مجال الإعلام.

لذلك، من الضروري أن يدرك الفاعلون في المجال الصحفي أن المرحلة القادمة تتطلب مجهودات أكبر في تحسين جودة المحتوى الإعلامي، وتجاوز العقليات التقليدية التي كانت تعتمد على العلاقات الشخصية أكثر من الأداء المهني.

فالصحافة ليست فقط أداة للحصول على الدعم المالي، بل هي مسؤولية اجتماعية ومهنية تفرض على القائمين عليها الالتزام بأرقى المعايير التحريرية والفنية.

إن إصلاح صندوق دعم الصحافة الخاصة في موريتانيا ليس مجرد إجراء إداري، بل هو خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز الحوكمة الإعلامية وترسيخ قيم العدالة المهنية في القطاع. وفي ظل هذه التطورات، سيكون لزامًا على المؤسسات الإعلامية تطوير أدواتها وأساليب عملها لتواكب المعايير الجديدة، لأن الدعم لم يعد مجرد منحة، بل استثمارًا في الجودة والمصداقية والإنتاجية.

لقد أثبتت التجربة الحالية أن الشفافية والمهنية ليستا مجرد شعارات، بل يمكن تحقيقهما من خلال إرادة سياسية جادة وإدارة كفؤة، كما تجسد في قيادة حواء بنت ميلود لهذا الصندوق. ويبقى التحدي الأكبر الآن هو الاستمرار في ترسيخ هذه القواعد وتحويلها إلى ثقافة مؤسسية داخل المشهد الإعلامي الموريتاني.

محمد عبد الله محمدن

زر الذهاب إلى الأعلى