عودة شتات الصحراء: كيف اجتاحت الحرب ذاكرة السودان ومتاحفه

“أربع معجزات وهبت لي من آمون رع في عامي السادس على العرش. لم يشهد من سبقني مثلها. جاء الفيضان كمن يسرق الماشية، فغمرت المياه الأرض وأزهرت الزراعة، وغرقت الفئران والأفاعي، واختفى الجراد، وامتلأت المخازن بالغلال. أما أعظم ما منحني إياه والدي آمون، ما لم يمنحه لملك قبلي، فهو أن أقطع رؤوس أعدائي. أولئك الأعداء، من الأقواس التسعة، مقيدون اليوم تحت نعلي”.
بهذه الكلمات الخالدة، أمر الملك المحارب “تهارقا”، خامس ملوك الأسرة الخامسة والعشرين، بنقشها على “لوح فيضان النيل”، شاهداً على مجده في عامه السادس من الحكم، ولقّب بـ”سيد الأرضين”. وقد وُزعت نسخ من هذا اللوح في أرجاء مملكة كوش التي بسطت سلطانها من وادي النيل حتى بلاد آشور. ومملكة كوش، مهد الحضارة النوبية، اتخذت من نبتة، الواقعة حالياً بين مدينتي كريمة ومروي في السودان، عاصمة لها.
واليوم، في ظل نيران الحرب المستعرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أطلق السودانيون اسم “عرب الشتات” أو “شتات الصحراء” على المقاتلين الأجانب الذين استدعاهم الدعم السريع تحت غطاء “الفزع” القبلي، وهو الاسم ذاته الذي نقشه تهارقا على لوحه قبل قرون كناية عن أعدائه من الأقواس التسعة. لكن الفيضان لم يأتِ هذه المرة، بل تسلل “لص الماشية” في غفلة من الزمان، واستوطن الخرطوم، العاصمة المثلثة، استعداداً للانقضاض على ما تبقى من الزرع والنسل.
وها هم “شتات الصحراء”، وقد عادوا بثأر دفين، يرتدون بزات عسكرية حديثة، مزينة بنجوم وشارات كتبت بخط أنيق: “قوات الدعم السريع”. استباحوا الخرطوم، ونهبوا بيت تهارقا، حيث ملتقى النيلين، المعروف اليوم بـ”المتحف القومي السوداني”، وسرقوا ذهب مملكته المحفوظ في “الغرفة المحصنة”، ثم غادروه مثقلاً بسبعة أطنان من العجز، وحيداً في باحة منزله.
يقول د. حاتم النور، الأمين العام السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف:
“على ضفة النيل الأزرق، كان المتحف القومي السوداني، شاهداً على حضارة شعب، وذاكرة أمة، حيث اجتمعت المعارف منذ العصور الحجرية وحتى العهد الإسلامي. هنا حيث دافع كاشتا عن عقيدته، ووحّد بعنخي النيل من المنبع إلى المصب، وهبّ تهارقا دفاعاً عن أورشليم. هنا، ذكرنا الله في الكتاب المقدس”.
لكنّ الغاية من هذه الحرب لم تكن يوماً إعادة الديمقراطية أو مواجهة الإسلاميين، كما يزعم بعضهم، بل كانت حرباً على “دولة 56″، تلك الدولة التي ورثت السودان بعد الاستقلال. أرادوا سحق إرثها، هدم عمارتها، سرقة ذاكرتها، وطمس هويتها الثقافية والتاريخية.
وفي تقرير للبروفيسورة غالية جار النبي، مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، أكدت أن:
“المتاحف الواقعة في قلب الخرطوم كانت جميعها في مرمى النيران، وقد نُهبَت آلاف القطع الأثرية، من الذهب والمجوهرات والأسلحة وحتى الوثائق التاريخية. ما جرى ليس نهباً عشوائياً، بل خطة ممنهجة للقضاء على هوية شعب”.
وتشير إلى أن التدمير طال متحف نيالا، متحف الجنينة، متحف السلطان علي دينار، ومتحف الجزيرة بود مدني، بالإضافة إلى متحف بيت الخليفة بأم درمان، ومتحف السودان القومي للأثنوغرافيا، وحتى القصر الجمهوري نفسه.
كما دُمرت مواقع أثرية مصنفة ضمن التراث العالمي، مثل “جزيرة مروي” و”جبل البركل”، واقتحم عناصر الدعم السريع المتحف القومي، وعبثوا بمحتوياته وسط مشاهد مصورة توثق دخولهم حديقته ومبانيه.
يقول الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، رئيس مكتبة قطر الوطنية:
“ليتني لم أرَ هذا المشهد. نيران الحرب لم تكتفِ بقتل الإنسان، بل امتدت إلى ذاكرته، إلى تاريخه، إلى روحه. ما يحدث في السودان ليس صراعاً على السلطة، بل جريمة في حق الحضارة”.
فما حدث يؤكد أن الحرب لم تكن وليدة اللحظة. نهب منظّم بدأ منذ أيامها الأولى. تقول نسيبة محجوب عثمان، أمينة متحف السودان القومي:
“بعد تحرير منطقة المقرن، وجدنا أن أكثر من 500 ألف قطعة أثرية قد نُهبت من المخازن. والحصر لا يزال جارياً”.
لقد سحق “تهارقا” أعداءه في الماضي، وأخضع الأقواس التسعة، لكن “شتات الصحراء”، ورفاقهم من غرب أفريقيا، عادوا بثأر قديم. لم يبقوا على شيء، حتى متاحف الثورة المهدية نالها الدمار. حطموا متحف شيكان، ومتحف حوش الخليفة عبد الله، ونهبوا مقتنياته من المدافع، والأسلحة، والملابس، والوثائق، بل حتى العملة المتداولة أيام الإمام المهدي والخليفة عبد الله لم تسلم من سطوهم.
تقول نعمات محمد الحسن عبد الرحمن أبو ريدة، أمينة متحف بيت الخليفة:
“ما نهبوه يفوق في قيمته وزن المتحف نفسه. سرقوا التاريخ الذي لا يُقدّر بثمن، دمروا الرموز، والوثائق، والزي، والأسلحة، حتى أرواح الأجداد نُهِبَت”.